من قتلنا؟

مدة القراءة 5 د


مَن قَتلنا؟ لا يجدر أن يبقى الجواب تحت الركام. تحت الركام وفي قعر البحر ما يكفي من مشاريع شهداء وأحياء وأعمار خُطفت بلحظة. هؤلاء مع لائحة آلاف الأبرياء من شهداء وجرحى ومفقودين ومشرّدين ومنكوبين بالصدمة، ينتظرون أن يسمعوا جواباً على سؤال واحد: من فعل بنا هذا؟

لم تعد التوصيفات مجدية. إنه الجحيم وأكثر. Apocalypse. نهاية مأساوية لبلد صغير مُفلِس ومنكوب بزعمائه. قطار الشهداء لن يتوقّف قريباً. المفقودون وحدهم رسموا دائرة لمأساة تجاوزت بيروت المحروقة والمحزونة لتدقّ أبواب كلّ الخائفين على مصائرهم. أين نعيش؟ مع من نعيش؟ لمذا فعلوا بنا كلّ هذا؟ لقد استكتروا شارعاً بلا ركام على من ينام في الشارع!

إقرأ أيضاً: بيروت لا تشطب ذاتها عن ضفاف المتوسط

ستبدو كلّ الإجراءات الحكومية والرسمية قاصرة عن التخفيف من روع الأحياء. ما تبقى من “روحهم” المخطوفة. لن تنفع تسريبة ورقة لموظّف يرفع عنه المسؤولية، و”تعليم” رئيس جهاز أمني على “رفاقه” بأنه سبق إن قام بالواجب، في رفع المسؤوليات ومنح أسباب تخفيفية للمسبّبين بالجريمة. هي مسؤولية منظومة أمنية-سياسية-قضائية متكاملة. لا يمكن للفاجعة أن تجرّ معها أقلّ من إدانة متكاملة لمنظومة كانت تُستنفر في كثير من الأحيان لأتفه الأسباب. لتعيين موظف. لتوقيف مغرّدين وشتّامين. لزرع الأزلام في الحكومات. لإصدار بيانات عن عمليات أمنية تافهة. للّطم على حقوق طائفة.

بين فرضيتي الإهمال والعمل الإجرامي المقصود تتأرجح بيروت المنكوبة. مَن سيدين مَن؟ مرفأ بيروت، برماده وهياكل هنغاراته وقمحه المطحون، أزال ورقة التين الأخيرة عن المنظومة المهترئة. حتى كشف المسؤوليات لن يبرّد القلوب المحترقة. قبل نكبة بيروت. زُهقت الأرواح والأعصاب أمام المصارف، وداخل المحالّ التجارية، وعلى عتبة المستشفيات ووسط عتمة القبور… مَن سيدين مَن؟ الطغاة تاريخياً لا يرحمون.

أنحن أمام مشهد تكساس أم أوكلاهوما؟

عام 1947 يدوّي انفجار هائل في مرفأ تكساس سبقه حريق مفاجئ على متن سفينة فرنسية كانت تفرّغ حمولة 2300 طن من نيترات الأمونيوم. آلاف القتلى والجرحى وخسائر بمليارات الدولارات. تكساس تتقمّص في بيروت. حتى المشاهدد بين النكبتين مذهلة في تشابهها. كان ذلك من أكبر التفجيرات غير النووية في تاريخ البشرية.

جميلٌ أن نتفوّق على تكساس… لكن للمفارقة بإجرامنا و”نيتراتنا”. سلطة تدفن شعباً بأكمله. بتنا الانفجار غير النووي الأكبر في العالم. البشرية تصفّق لنا. نحن أيضاً نجاور هيروشيما بنكبته

في مرفأ بيروت. أولياء أمرنا وأمننا أشرفوا على تأمين “الغطاء” لبقاء 2750 طن من نيترات الأمونيوم ورعايتها لمدّة ست سنوات. أقلّه هناك مادة في قانون الجمارك تحظر تخزين المواد القابلة للاشتعال والانفجار لكنّ أحداً لم يتنبّه لها. خلال 72 شهراً كان يمكن للمنظومة المهترئة أن تجنّبنا الكارثة. رؤية الأحشاء خارج الأجساد، والرؤوس المطحونة، والأحياء الباحثين عن ذويهم بين الركام، وطالبي الحياة يئنّون تحت الجمر والدمار… ستّ سنوات كان يمكن أن تكون بيروت أجمل وأكثر نضارة، وأهلها لا ينامون تحت وسادة قنبلة نووية موقوتة، وعشّاقها ينصرفون الى أعمالهم في مناطقهم مطمئنين إلى قدرها…  

جميلٌ أن نتفوّق على تكساس… لكن للمفارقة بإجرامنا و”نيتراتنا”. سلطة تدفن شعباً بأكمله. بتنا الانفجار غير النووي الأكبر في العالم. البشرية تصفّق لنا. نحن أيضاً نجاور هيروشيما بنكبتها.

ستكشف لجنة التحقيق، وفق مقرّرات المجلس الأعلى للدفاع، حقيقة ما حصل خلال خمسة أيام و”محاسبة المقصّرين والمسؤولين”. ينتظر اللبنانيون سدى منذ عقود معرفة هوية المجرمين الذين نهبوا البلد وسرقوا جنى عمرهم وأرزاقهم. والمطلوب منهم اليوم أن ينتظروا بضعة أيام ليقال لهم من أزهق أرواحهم، وخطف الأمل الضئيل داخلهم بأنّ تركيبة المصالح والمحاصصة والعفن السياسي، ستشفع بهم ولن تقودهم إلى القبر!

يفترض بالتحقيق إياه أن يكشف ماذا كان يمكن فعله بين الحريق الأول والإنفجار

وهل من خيار آخر غير الانتظار. سننتظر من يقول لنا أيضاً إذا كنا ضحايا لانفجار أوكلاهوما 2 في مرفأ بيروت. هنا تحضر نظرية المؤامرة والتخطيط المسبق. عمل إرهابي محلي مخّطط له تمثّل في هجوم بسيارة مفخّخة بعبوات من نيترات الأمونيوم على مبنى ألفريد مورا الفدرالي في وسط مدينة أوكلاهوما عام 1995. فهل ثمّة من خطّط للضربة القاضية. لليوم الأكثر سوداوية وحزناً في تاريخ لبنان الحديث.

 بين الفرضيتين، وبمطلق الأحوال، يصعب حجب المسؤولية عن الإهمال الفاضح في التفرّج الرسمي على “العنبر النووي” منذ العام 2014 من دون المبادرة إلى التخلّص منه بما يجنّب اللبنانيين السير في جنازات أحبائهم.

ويفترض بالتحقيق إياه أن يكشف ماذا كان يمكن فعله بين الحريق الأول والإنفجار. هل كان يمكن للمهلة الفاصلة بينهما أن تخفّف من الخسائر البشرية عبر الإجلاء من المنطقة المنكوبة. وعن دور كافة الأجهزة الامنية العاملة في المرفأ، ومديرية الجمارك، والمجلس الأعلى للجمارك، ومدير عام المرفأ، والتي تجيز لها الحكومات المتعاقبة كلّ عام بمرسوم استيراد مئة طن من نيترات الأمونيوم.

مع العلم أن كتاب مدير عام الجمارك بدري ضاهر الى قضاء العجلة في العام 2017  يختصر بالدعوة لإعادة التصدير أو الموافقة على بيع الكمية الى الشركة اللبنانية للمتفجرات العائدة الى شماس.

وإن صحّت “تسريبة” أن تلحيم باب حديدي أدى الى حريق فإنفجار البركان “النووي” فهذا كافٍ وحده لتعليق مشانق معنوية لكثيرين… المهمّ تعليقها وجلب المقصّرين والمرتكبين حتى في حال العمل التخريبي المقصود!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…