وسّع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان دائرة البيكار في مواجهة إسرائيل وداعميها في الغرب بسبب مواصلة عدوانها على غزة، لكن ليس من أنقرة هذه المرّة، بل تحدّث من قلب برلين بحضور المستشار الألماني أولاف شولتز الذي راوده حتماً الشعور بالندم على دعوته الموجّهة لإردوغان، بسبب ما سمعه من الأخير خلال مؤتمر صحافي مشترك كاد أن يفجّر العلاقات السياسية المتوتّرة أصلاً، وترك المضيف الألماني في ورطة في الداخل أمام الإعلام واليمين القومي المعارض الذي يواصل صعوده السياسي والشعبي.
أنهى إردوغان زيارته للعاصمة الألمانية، التي جاءت بدعوة من المستشار شولتز في أيار المنصرم، بعد فوز الرئيس التركي في الانتخابات الرئاسية، بهدف فتح صفحة جديدة من العلاقات، خلال ساعات وبعكس ما كان متوقّعاً لها.
وسّع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان دائرة البيكار في مواجهة إسرائيل وداعميها في الغرب بسبب مواصلة عدوانها على غزة، لكن ليس من أنقرة هذه المرّة، بل تحدّث من قلب برلين
أردوغان يهدّد ألمانيا
وضع إردوغان النقاط على الكثير من الحروف في رسائله الموجّهة لإسرائيل وحلفائها من العاصمة الألمانية برلين الشريك والحليف الأقوى لتل أبيب، وبعكس ما كانت عليه الأمور قبل حوالي ثمانية عقود: “إذا كان كلّ كيان إرهابي مدعوم من قوى مثل الولايات المتحدة وأوروبا، سيقتل الناس كما يشاء ويرتكب فظائع ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، فهذا يعني أنّ النظام العالمي تعطّل بالكامل”. ولدغة أخرى: “لو أنّ دولة مسلمة ارتكبت جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل حتى الآن لتدخّل القضاء الدولي على الفور دون الحاجة إلى تحريكه”. ثمّ رسالة مباشرة لمن يعنيه الأمر في ألمانيا: “لا يمكن تهديد تركيا بعدم بيعها مقاتلات يوروفايتر تايفون. عليكم أوّلاً أن تجيبوا على سؤال: ألا يزعجكم قتل إسرائيل لآلاف الفلسطينيين وقصف المستشفيات وأماكن العبادة؟”. وألحقها برسالة تحدٍّ مباشر للقيادة الألمانية من عقر دارها: “نحن لا نعاني مثل البعض من سيكولوجيا المديونية لإسرائيل لأنّنا لا ندين لها بشيء”.
وأضاف أردوغان من قلب برلين: “سواء أعطتنا ألمانيا الطائرات المقاتلة أم لا، فإن ألمانيا ليست الدولة الوحيدة في العالم التي تنتج طائرات مقاتلة. يمكننا شراؤها من العديد من الأماكن، وأصبحت تركيا الآن واحدة من الدول الرائدة في مجال الطائرات المقاتلة بدون طيار”.
تتمسّك تركيا بعلاقاتها التجارية مع ألمانيا التي اقتربت من 50 مليار دولار سنوياً. وهي تستفيد في ذلك من خلال دياسبورا تركية فاعلة تتجاوز ثلاثة ملايين ونصف مليون مواطن للتأثير على القرار الألماني في رسم معالم ومسار العلاقات. بالمقابل يعتبر الداخل الألماني تركيا شريكاً صعباً لكن لا غنى عنه.
غيوم ملبّدة سبقت الزيارة
وسط هذه المعطيات تمّت التفاهمات التركية الألمانية على أن تكون الزيارة مقدّمة لفتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية تجيَّر لمصلحة الدفع الإيجابي للعلاقات التركية الأوروبية وقضايا عالقة تتطلّب المراجعة مثل ملفّات اللجوء والهجرة واتفاقيات الاتحاد الجمركي. لكنّ انفجارالوضع في غزة هيمن على كلّ النقاشات وترتيبات الزيارة. فقبل وصول إردوغان إلى برلين بساعات كان هناك الكثير من الغيوم الملبّدة التي توحي أنّ الأجواء ستكون ممطرة وعاصفة أبرزها:
– قرّرت لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية التركية إرجاء موعد مناقشة طلب عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي الذي تطالب برلين بتسريعه وحسمه قبل نهاية العام.
– كشف وزير الدفاع الوطني يشارغولر النقاب عن أنّ تركيا تخطّط لشراء 40 طائرة مقاتلة من طراز “يوروفايتر تايفون” التي تساهم الدول الثلاث ألمانيا وإنكلترا وإسبانيا في تصنيعها، وأنّه تمّ التوصّل إلى اتفاق مع بريطانيا وإسبانيا بهذا الخصوص، وأنّ هذين البلدين يحاولان إقناع ألمانيا بقبول الطلب التركي.
– أعلن إردوغان أنّ بلاده ستتقدّم مع أكثر من ألفَي محام بشكوى إلى الجهات المحلية والدولية المعنيّة ضدّ المجازر الإسرائيلية في غزة، وأنّ الهدف بالتنسيق مع العديد من العواصم هو محاكمة نتانياهو وقيادات الجيش الإسرائيلي من قبل المحكمة الجنائية الدولية على ما ارتكبوه من أعمال في غزة.
أنهى إردوغان زيارته للعاصمة الألمانية، التي جاءت بدعوة من المستشار شولتز في أيار المنصرم، بعد فوز الرئيس التركي في الانتخابات الرئاسية، بهدف فتح صفحة جديدة من العلاقات، خلال ساعات وبعكس ما كان متوقّعاً لها
– دعا الرئيس التركي المجتمع الدولي والمنظمات الأممية إلى التحرّك باتجاه تفتيش المؤسّسات والمراكز الإسرائيلية الناشطة في قطاع الأبحاث النووية وتحديد ما إذا كانت تل أبيب تملك هذا النوع من الأسلحة بعد تهديدات وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بضرب قطاع غزة بقنبلة ذرّية.
– قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنّ الشعب الفلسطيني يعيش مأساة إنسانية نتيجة الوحشية الإسرائيلية في غزة، وإنّه لا يمكننا أن نبقى صامتين حيال الاستهداف الشامل للمدينة، وإنّ هناك طرقاً أخرى لكسر الحصار المفروض على القطاع إذا لم نحصل على نتيجة في إطار الوسائل الدبلوماسية.
– ارتفع عدد الأصوات المطالبة في صفوف الحكم والمعارضة التركية على السواء بمراجعة وضع قاعدة “إنجرليك” العسكرية التي تضعها أنقرة بتصرّف القوات الأطلسية والأميركية تحديداً، بسبب تمسّك واشنطن بالوقوف إلى جانب إسرائيل في عدوانها على غزة.
– بدأت ملامح تحريك ورقة قديمة جديدة ضدّ إسرائيل من خلال وضع اللمسات الأخيرة على توجيه مئات القوارب التي ستقلّ عدداً كبيراً من مواطنين يحملون جنسيات متعدّدة نحو سواحل قطاع غزة. المؤكّد هنا أنّ خطوة من هذا النوع تساهم في الإشراف عليها “جمعية مافي مرمرة” و”ائتلاف أسطول الحرّية”، ستعيد الأمور إلى أجواء ما قبل 13 عاماً مع إطلاق أسطول الحرّية الذي تعرّض يومها لهجوم إسرائيلي بحريّ أسفر عن سقوط العشرات من الإصابات ووتّر العلاقات التركية الإسرائيلية لسنوات طويلة.
– إشارة رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش أمام مجموعة “ميكتا” في اجتماعها الموسّع بجاكرتا، إلى أنّ عدم سماح إسرائيل للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بدخول قطاع غزة، يعدّ بمنزلة إعلان صريح بأنّ وثائق المنظمة الأممية قد مُزّقت ورُميت في سلّة المهملات.
عواصم الغرب… والمحكمة الدولية لنتانياهو
واصل إردوغان تصعيده ضدّ نتانياهو والمطالبة بمحاسبته سياسياً في الداخل ومحاكمته دولياً بسبب قراراته وممارسات جنوده في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم حتى اليوم. لكنّ مشكلة الإجابة على سؤال عن توصيف وتعريف عملية الغلاف التي نفّذتها مجموعات حماس ومسؤوليّتها السياسية والقانونية التي تتمسّك بها العواصم الغربية هي العقبة الواجب تجاوزها أيضاً.
ارتفع عدد الأصوات الداعمة لموقف المدّعي العامّ في محكمة الجنايات الدولية، وتلميحات العواصم الغربية التي تقول إنّها إذا ما حوصرت بطلب مراجعة مواقفها وسياساتها حيال ما تفعله إسرائيل في غزة، فستلجأ إلى تحريك ورقة وضع الطرفين المتحاربين على مسافة واحدة تحت سقف المحكمة الجنائية. قد تقول واشنطن ولندن وبرلين نعم لمساءلة نتانياهو وإزاحته، لكنّ حماس أيضاً عليها أن تدفع الثمن السياسي إذا ما أراد البعض أن يكون المنتصر هو القضية الفلسطينية وحلّ النزاع في إطار الدولتين على المدى البعيد.
من “لماذا بدّل إردوغان موقفه في غزة؟” إلى “إردوغان يوسّع دائرة البيكار في مواجهة نتانياهو”، هناك فاصل زمني يقترب من الشهر. ولا يمكن أن تتجاهل الإجابة عرقلة العديد من العواصم الغربية للخطة التركية المعروضة من أجل الحلّ في غزة والجهود التي كانت تبذلها أنقرة لإقناع تل أبيب بعدم تنفيذ عمليّتها البرّية ضدّ القطاع. تشجيع اللاعب الصيني على الدخول على خطّ الوساطة بين طرفَي النزاع قد يرضي أنقرة إذا ما نجحت الجهود، لكنّه يزعجها حتماً لأنّه سيتمّ على حساب طموحات تركيا في لعب هذا الدور.
إقرأ أيضاً: غزّة ترسم “خطوط تماس” في شوارع أوروبا
ماذا يريد إردوغان من ألمانيا؟
ما الذي بحثه الرئيس التركي مع المستشار الألماني أولاف شولتز خلال زيارة استغرقت أقلّ من 10 ساعات، وشهدت مواجهة حامية الوطيس أمام العدسات، بسبب التباعد بينهما في تحليل وتقدير ما يجري في غزة؟
احتمال كبير أن يكون الرئيس التركي قد ردّد على مسامع شولتز أنّ التقويم الأوروبي توقّف عند 7 تشرين الأول ولم يناقش ما جرى بعد هذا التاريخ لناحية قتل إسرائيل لأكثر من 13 ألف فلسطيني أغلبهم من الأطفال والنساء.
لكنّ ما يريده إردوغان أيضاً هو أن يتحدّث الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير خلال زيارته لتل أبيب بلغة ونبرة جديدتين أكثر اعتدالاً وانفتاحاً على جهود التهدئة، وبعكس ما كانت برلين تقوله قبل شهر عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ورفض دعوات وقف إطلاق النار.
إردوغان يعوّل أيضاً على دور ألماني باتجاه الضغط على نتانياهو لتفعيل وتسريع جهود مبادلة الرهائن والأسرى ووقف القتال، إلى جانب نقل رسائل تركية لتل أبيب عبر برلين مفادها أنّ مخاطر التصعيد العسكري بدأت تهدّد أكثر من جبهة بالاشتعال، وهي حتماً ستطيح بما بُذل من جهود على خطّ التقارب التركي الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة. للتذكير فقط أنّه كلّما تعقّد المشهد في غزّة وطالت الأزمة، كان ذلك على حساب أنقرة ومصالحها الإقليمية ومنظومة العلاقات الخارجية التي بدأتها من جديد في العامين الأخيرين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@