ببيان صحافي مقتضب لم يتعدَّ 20 دقيقة، وبكلام مكتوب ومنمّق، خرج حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أمام الرأي العام، للمرة الثانية منذ تولّيه منصب الحاكمية، ليعلن جملة من الرسائل، على رأسها استمرار العمل بمنصّة “صيرفة”، لكن هذه المرّة بشكل مستتر وبـ”غطاء” من وزير المالية.
المؤتمر الذي حضره المصوّرون أكثر من الصحافيين والمراسلين، كان هذه المرّة “Solo”. لم يُجلس الحاكم بالإنابة نوّابه الثلاثة من حوله كما في المرّة السابقة، بل اكتفى بمرافقٍ مفتول العضلات متّشح باللون الأسود (على طريقة مرافقي “السيّد”) أوقفه على يساره، مع بعض المرافقين الآخرين (بلباس عاديّ) الذين تكفّلوا بتوزيع الأدوار ونَهْر الداخلين بشكل متأخّر إلى القاعة من أجل عدم الاقتراب من “كادر الكاميرا”.
بعد انتهاء منصوري من إلقاء الكلمة، اعتذر من الحاضرين عن عدم الردّ على أيّ سؤال، ثمّ انسحب مع مرافقه من قاعة مصرف لبنان التي تعلو مكتبه بطابق واحد، واعداً بالإطلالة بأسلوب جديد وبتلقّي الأسئلة في المرّة المقبلة… وهو ما يعني أنّ إطلالاته التلفزيونية ستكون كثيرة.
العودة الملتبسة إلى صيرفة
في معرض تلاوة البيان، لم يعلن منصوري صراحة أنّه عاد إلى منصّة “صيرفة”، لكنّه أوحى بذلك لمن يقرأ بين السطور من خلال تأكيده أنّ رواتب القطاع العامّ ستُدفع بالدولار الأميركي على سعر 85,500 ليرة، أي سعر المنصّة الأخير، بينما أكّد أنّ مستلزمات الجيش والقوى الأمنيّة وبقيّة الوزارات الأخرى “في طور التوافق” مع الحكومة على توفيرها.
تقول المعلومات إنّ منصوري يتدخّل في السوق شارياً الدولارات الأميركية من الصرّافين، لكن بكميّات ضئيلة جداً، تكاد تكفي الرواتب المقدّرة بنحو 7 تريليونات ليرة والتي تحدّث عنها في بيانه الصحافي
لم يخبر منصوري الصحافيين الحاضرين في المؤتمر، ولا الرأي العامّ خلف الشاشات الذي يتقصّد التوجّه إليه بشكل مكثّف بخلاف رياض سلامة، من أين سيأتي بالدولارات لدفع تلك الرواتب (78.5 مليون دولار)، ما دام يؤكّد عدم المسّ باحتياطات مصرف لبنان (إن وُجدت) والتوظيفات الإلزامية؟
هل يشتريها من السوق؟ وإن فعل فعلى أيّ سعر صرف؟ بل بأيّ ليرات لبنانية ما دام يؤكّد عدم طباعة أموال لبنانية جديدة؟ (رفض الطباعة أو القبول ليس من صلاحيّاته).
كلّ هذه الأسئلة اختصرها منصوري بأنّ الاستقرار مصون بـ”الوسائل التقليدية” ووفق المادّتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف، أي عبر “التدخّل في السوق”، لكن بالتوافق بينه وبين وزير المالية، متوجّهاً بالشكر إلى السلطات القضائية والأمنيّة التي “تعمل بشكل مستمرّ لمنع أيّ تلاعب من قبل المضاربين بسعر الصرف”.
تقول المعلومات إنّ منصوري يتدخّل في السوق شارياً الدولارات الأميركية من الصرّافين، لكن بكميّات ضئيلة جداً، تكاد تكفي الرواتب المقدّرة بنحو 7 تريليونات ليرة والتي تحدّث عنها في بيانه الصحافي.
هذا يعني أنّ منصوري مضطرّ إلى شراء نحو 3.2 ملايين دولار يومياً إذا اعتبرنا أنّ معدّل أيام العمل 25 يوماً، وسعر الصرف الذي يشتري بموجبه هو 89 ألفاً. وقد يكون مضطرّاً إلى التدخّل أكثر من أجل توفير طلبات الإدارات والوزارات الأخرى… لكن إلى حين.
أكّد منصوري في معرض حديثه أنّ تلك الاحتياجات “قد لا يمكن توفيرها في الأشهر المقبلة”، وذلك لأنّ الاستقرار “له حدود في الزمان والظروف السياسية والاقتصادية والأمنيّة”. وقد عنى الحاكم بالإنابة بهاتين الجملتين المقتضبتين دفق الدولارات الناتج عن الموسم السياحي الذي شارف على الانتهاء.
رياض سلامة ما زال “الحاضر” حتى بعد رحيله، واستطاع أن يفرض واقعاً نقديّاً وماليّاً يصعب تخطّيه في ظلّ الطبقة السياسية الحالية، التي ستعيد منصوري فيما يبدو إلى حيث انتهى سلامة
الحكومة تحدّد الأولويّات
خلال تلاوة بيانه، كشف منصوري أيضاً أنّ الأولويّات “يتمّ تحديدها من قبل الحكومة”، وعليه ما يمكن استخلاصه من كلامه أنّ أولويّة الحكومة اليوم في ما يخصّ توفير الدولارات هي ما يلي:
1- رواتب موظّفي القطاع العامّ.
2- الجيش والقوى الأمنية ومستلزماتهما.
3- أدوية الأمراض المستعصية عبر وزارة الصحّة.
4- دولارات القمح.
أمّا بقيّة المواضيع، الكهرباء مثلاً، فتأتي في أسفل تلك الأولويّات اليوم، أو ربّما غير موجودة أصلاً.
في الختام، وبعدما تطرّق منصوري إلى ضرورة الإصلاح وذكّر بالبنود والقوانين الإصلاحية، تحدّث عن أرقام مصرف لبنان وعن “جردة” موجودات المركزي من الذهب التي كشف عنها ببيانات متلاحقة هذا الأسبوع، وتعهّد بمساعدة شركة “ألفاريز إند مارسل” لاستكمال التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ثمّ ختم بـ”دقّ ناقوس الخطر” والتحذير من مغبّة الاستمرار بتنامي الاقتصاد النقدي (الكاش) ومخاطره المتمثّلة في “عزل لبنان عن النظام الماليّ الدولي”.
ظهر الحاكم بالإنابة متحدّثاً “بلسان أميركي”، لدرجة أنّ إحدى المراسلات الموجودات في القاعة همست سرّاً لمن كان على يسارها: “كأنّني أستمع للسفيرة الأميركية وهي تتحدّث”.
إقرأ أيضاً: “إرباك الحاكميّة” يرفع الدولار نهاية آب.. إلّا إذا؟
لكنّ منصوري لم يُطلع الصحافيين الحاضرين، ولا الرأي العامّ الذي يتابعه مباشرة من خلف شاشات التلفزة، كيف استطاع أن يوفّق بين التدخّل في السوق لشراء الدولارات (نقداً) عبر “صيرفة” وبين التحذير من مغبّة “تنامي اقتصاد الكاش”؟
أحد خبراء المخاطر المصرفية عقّب على هذه “الأحجية” بسؤال: أين التعميم 165 التي أصدره الحاكم السابق رياض سلامة وكان نواب الحاكم (وبينهم منصوري) متحمّسين له في حينه؟ ولمَ لا يبدأ منصوري بتطبيقه؟
خلاصة المشهد تُختصر بجملة: رياض سلامة ما زال “الحاضر” حتى بعد رحيله، واستطاع أن يفرض واقعاً نقديّاً وماليّاً يصعب تخطّيه في ظلّ الطبقة السياسية الحالية، التي ستعيد منصوري فيما يبدو إلى حيث انتهى سلامة… لكن بهدوء.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@