يدفع لبنان اليوم، ثمن الخطأ الكبير لدور صغير دام لوقت قصير. تكاليف الثمن سيتوارثها اللبنانيون لأجيال مقبلة، كما هم دفعوا في السنوات الفائتة ثمن انتخاب إميل لحود والتجديد له. نتاجات عهد ميشال عون الرئاسي سيحصد اللبنانيون فداحتها في السنوات المقبلة. الدور الصغير في وقت قصير، لعبه وللأسف الرئيس سعد الحريري، إمّا لخطأ في التقدير، أو لأمل أخطأه الهدف فتغيّر المسير.
يروي الكاتب الأستاذ رضوان السيد في قراءته التاريخية لـ”خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية”، قصة لقائه بالصحافي الألماني الذي كتب تقريراً في مجلة “دير شبيغل” عن القرار الظنّي الذي ستصدره المحكمة الدولية وتتهم فيه حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
خطأ اقترفه سعد الحريري بإقرار قانون الانتخاب، والذي خلال المداولات حوله أبلغ وليد جنبلاط أنّه “مهما كان ومهما حصل لا ينتظر أحد منه أن يعارض رغبة ميشال عون أو يزعجه خصوصاً في مسألة قانون الانتخاب”
الأفظع في ما يرويه السيد، هو اتصال الصحافي الالماني نفسه به بعد انتخابات العام 2009 طالباً منه عدم الفرح بالانتصار “لأن إيران لن تسمح بإجراء انتخابات برلمانية في لبنان ما لم تضمن حصولها على الأكثرية”. وهذا ما كان، إذ صدق توقع الصحافي الألماني أو معلومته، فلم تجرِ الانتخابات في العام 2013، وحتى العام 2018، حين ضمن حزب الله أكثرية نيابية سمحت لقاسم سليماني أن يعلن انتصاره السياسي والتشريعي في لبنان. كان ذلك منتصف طريق دفع الثمن، لخطأ التسوية، وخطأ اقترفه سعد الحريري بإقرار قانون الانتخاب، والذي خلال المداولات حوله أبلغ وليد جنبلاط أنّه “مهما كان ومهما حصل لا ينتظر أحد منه أن يعارض رغبة ميشال عون أو يزعجه خصوصاً في مسألة قانون الانتخاب”.
إقرأ أيضاً: قراءة تاريخية لـ”14 آذار”: خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية! (1/2)
لم يدفع الحريري وحده الثمن، ولن يقتصر الثمن عند هذه الدورة البرلمانية أو التسوية الرئاسية. أصبح الحريري خارج السلطة والتسوية، وقتها القصير دام ثلاث سنوات، بينما يستكمل عون سنوات “عهده” ولا ييأس من محاولات تعبيد الطريق أمام صهره ليبقى صاحب المشروع الرئاسي الوريث. لم يكن لعون وباسيل أن يحقّقا ما تحقّق، لو لم يكن السنّة قد خرجوا من المعادلة الوطنية منذ سنوات. وتحديداً منذ اتفاق الدوحة وفق ما يأتي في مقال “السيد”. واستلهاماً من المقال، أيضاً حول نظرة السنّة اللبنانيين والسوريين والعرب إلى رفيق الحريري، فليس سنّة لبنان وحدهم من يدفعون ثمن التحولات في منطقة الشرق الأوسط. هم يحلّون في آخر سلّم التراتبية.
بدأ الاستهداف باجتياح العراق وإسقاط صدام حسين، فدخلت إيران ومزّقت العراق، واستكمل المشروع باغتيال ياسر عرفات، لضرب القضية الفلسطينية وإنهائها، بإغراقها في بحور الإنقسام والدم، فاشتدّ عضد حركة “حماس”، أي الإسلام السياسي، الذي ضرب القرار الفلسطيني المستقلّ، وأيّ مدنية فلسطينية كانت تمثلها منظمة التحرير. لم يكن انتصار “حماس” في الانتخابات، سوى مقدمة لما أتى فيما بعد في كل دول الربيع العربي، إذ استخدم الإسلاميون كذرائع للانقضاض على السنية الوطنية والمدنية، بتغذية تطرّفين سنّي وشيعي لبعضهما البعض. من إسقاط صدام حسين في العام 2003، إلى اغتيال ياسر عرفات في العام 2004، وصولاً إلى زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005.
فاجأ الحريري بعض المقربين منه ذات يوم، باعتباره أن إتفاق الطائف قد ظلم المسيحيين ولا بدّ من تصحيح الخلل
سُحقت الثورة السورية فيما بعد بذريعة محاربة التطرف والإرهاب، وهُجّرت الأكثرية السنية من مناطقها ومنازلها، وتمزّقت سوريا بما هو أسوأ من العراق، وبما يلبّي أحلاماً إسرائيلية تاريخية. فيما كان دور السنّة في لبنان يتراجع لحساب الشيعة والمسيحيين. وجهات دولية عديدة، أميركية، بريطانية، فرنسية، لم تكن بعيدة عن نسج التسوية الرئاسية وإقناع سعد الحريري بها. حتّى فاجأ بعض المقربين منه ذات يوم، باعتباره أن اتفاق الطائف قد ظلم المسيحيين ولا بدّ من تصحيح الخلل. جُنّ من سمع كلام الحريري، ونصحوه بقراءة تاريخ الطائف وظروف الاتفاق عليه والأثمان التي دُفعت. لكن لم يأبه. هناك من أقنعه بوجوب إبرام التسوية مع عون، ولم يكن يحتاج إلى كثير عناء، لأنّه يريد العودة إلى رئاسة الحكومة.
بعيد التسوية، نشب صراع الصلاحيات، الذي فرضه عون وباسيل، ضمن معادلة “الأقوياء” في طوائفهم. كان التحالف الشيعي المسيحي هو الأقوى، بينما الطرف السنّي كان مستلحقاً، فأمعن في إضعاف نفسه بتقديم التنازلات والتغاضي عن خروقات وتجاوزات. ليتكرّس إنهاء الدور السنّي المؤثّر في المعادلة الوطنية بإخراج الحريري من السلطة، بعد أن تلقى ضربة سابقة بإسقاط حكومته، فيما الضربتان السابقتان كانتا خلال اجتياح 7 أيار 2008 لبيروت والجبل، وملحق هذا الاجتياح في اتفاق الدوحة، وقبلها اغتيال الرئيس الشهيد الحريري.
يتجاوز التحالف الشيعي المسيحي حالياً أي خلاف على التفاصيل الشكلية. كانت متانته أقوى من الإفراج عن العميل فايز كرم، كما يتجاوز اليوم ثمن صفقة لإطلاق سراح العميل عامر الفاخوري من السجن، تلبية لمطالب أميركية وتجنباً للمزيد من الضغوط والعقوبات. باسيل طلب من أمين عام حزب الله شخصياً المساعدة في ملف إطلاق سراح الفاخوري، وطلب منه أكثر، السماح في تمايزه بمواقفه عن الحزب ببعض الملفات سعياً لتحسين صورته وعلاقاته الخارجية لا سيما مع الأميركيين. كان ما أراد للحليف المسيحي صاحب الغطاء “الوطني” الأكبر لحزب الله.
مشكلة الجماعة السنية أنّه عندما وقف سعد الحريري في بيت الوسط معلناً أنه “أبو السنة”، حوّلهم إلى طائفة، فصغّر من حجمهم وتأثيرهم وربطهم بشخصه
من يتجاوز موقف باسيل بانعدام أيّ خلاف أيديولوجي لديه مع إسرائيل، وبحقّها في العيش بسلام دون الاعتداء على الآخرين، لا يقف عند حدود إطلاق فاخوري، إنّما يبحث عن فرصة لفتح باب للتفاوض على صفقة ما. طبعاً سيدفع السنّة أيضاً أثمانها. في ظل حسابات مفاوضات ترسيم الحدود والتنقيب عن النفط، والتي يحصرها حزب الله وباسيل بهما فقط، سواء في البلوكات الجنوبية أو في البلوك رقم 4، والتي لا يمكن أن تتحقّق بدون تفاهم بالحد الأدنى ولو غير المباشر مع الأميركي والإسرائيلي، والذي يرتبط حكماً بملف العلاقة الإيرانية الأميركية.
في هذه المعادلة، يقف السنّة والعرب موقف المتفرّجين، فيسقط الرهان السنّي التاريخي على الدولة ومؤسساتها. هذا الرهان الذي خسروه مرتين، المرّة الأولى عندما جُوّفت مؤسسات الدولة وأضعفت حتى أنهكت، لحساب مشاريع موازية لها، أمنية وعسكرية، وإقتصادية وفي قطاعات مختلفة، أبرزها الكهرباء. وفي المرّة الثانية خسارتهم لدورهم وتأثيرهم في المعادلة السياسية المفترض بها التأثير على الدولة وأدائها. ومشكلة الجماعة السنية أنّه عندما وقف سعد الحريري في بيت الوسط معلناً أنه “أبو السنة”، حوّلهم إلى طائفة، فصغّر من حجمهم وتأثيرهم وربطهم بشخصه.
التركيز اليوم يقع على إخراج السنة من عباءة الطائفة، لاستعادة الدور الوطني كمؤسّس لانطلاقة سياسية جديدة، لمواجهة أي تحالفات سياسية طائفية أو أقلوية يريد البعض من خلالها تكريس وصوله إلى رئاسة الجمهورية مستقبلاً.
لقراء مقالة المفكّر رضوان السيّد “قراءة تاريخية لـ”14 آذار”: خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية!”،
ولقراءة النقاش الذي أثارته مقالة الدكتور رضوان السيد إضغط هنا