مصر في “بريكس”… وزن الحقّ

مدة القراءة 5 د


لو شئنا أن نضع عنواناً عريضاً للوطن العربي، من الماء إلى الماء، في نصف القرن الأخير، لما وجدنا أفضل من: “في غياب مصر”.

ولأنّ كلمة “غياب” واسعة وفضفاضة وتبعث حزناً في النفس، ربّما من الأفضل القول “بعيداً من مصر” أو “ابتعاد مصر”.

ذاك الغياب أو البعد أو الابتعاد ليس مكان الخوض فيه هنا في هذه العجالة. فأن نكتب عمّا جرى في الخمسين سنةً الأخيرة فهذا أمر يفتح أبواباً لا رادّ لها، وينكأ جراحاً لمّا تندمل بعد.

دنيا بلا أمّ

العالم العربي بلا مصر، ليس عالماً. لا العالم العربي فحسب، بل العالم كلّه. أوليست مصر “أمّ الدنيا”؟ أليس الفراعنة والمصريون القدامى آباء الحضارات كلّها؟ حتى إنّ باحثاً أميركيّاً يُدعى جورج مايكل قال قبل سنوات إنّ الحضارة اليونانية، أو الفلسفة اليونانية، أمّ الفلسفات والحضارات، ليست إلا حضارةً فرعونيةً وفلسفةً مصريّةً مسروقةً!

مصر على السكة الصحيحة. تمضي على هدي مقدراتها وما لها وما عليها. حتماً ستخرج من أعباء ديونها التي تثقل كاهلها. ستصدّر وتستورد بعملتها المحلية، وهذا أكثر ما يجذب في بريكس

منذ حرب تشرين الأول (أكتوبر)، وجنوح الرئيس المصري الأسبق أنور السادات نحو السلم مع إسرائيل، ونحن  أفراداً وعائلاتٍ وأحزاباً ودولاً وتكتّلاتٍ وأفكاراً أيتام. ثمّ يقولون لك انتصار تشرين الأول والعبور واستعادة سيناء والقنيطرة… إلخ. كيف يكون انتصاراً ونحن بعيدون عن مصر، أو مصر بعيدة عنّا؟ كيف انتصرنا وقد خسرنا مصر؟

كيف يربح من لا يعرف قيمة ما يملك؟

حقائق وأرقام

الباعث على كتابة ما سبق هو انضمام مصر إلى مجموعة “بريكس”. وهو الانضمام الذي يطرح سؤالاً عن الخمسين سنةً المقبلة؟ أيّ عنوان سيحمل نصف القرن المقبل؟ لا شكّ سينشطر العنوان إلى شطرين: شطر يُيَمّم صوب رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وشطر صوب مصر العائدة حديثاً إلى الواجهة، وإلى دورها الريادي، لكن بلا مغامرات، أي بلا الناصريّة حرباً وسلماً.

مصر في “بريكس” بدءاً من مطلع العام المقبل. خبر مدوٍّ. خبر له ما بعده. فتجمُّع بريكس، الذي يُعدّ منظّمةً دوليةً تشجّع التعاون والتبادل التجاري والثقافي والسياسي بين الدول المنضوية تحته، واحد من التجمّعات الاقتصادية العالمية المهمّة والواعدة. بلغت مساهمته 25.6% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي عام 2022، ويسيطر أعضاؤه على 20% من حجم التجارة العالمي.

دوله تشغل 27% من إجمالي مساحة العالم، وأمّا نسبة السكّان فـ41% من إجمالي عدد سكان العالم. هذا قبل انضمام الدول الجديدة إليه وعلى رأسها مصر. لا شكّ أنّه نواة تحالف دولي جديد سيكسر الأحادية القطبية وينافس التحالف الغربي “جي 7”.

لا شكّ أنّ دوله تشكّل سوقاً مغريةً للاستثمار. البيان الختامي لقمّة جوهانسبرغ الأخيرة التي جمعت ممثّلي الدول المنضوية في التجمّع يحمل طموحات كثيرة. ينذر بنشوء تحالف سياسي جديد يسرّع الخطى نحو نظام عالمي متعدّد الأقطاب.

لن ننقاد هنا إلى وهم إزاحة الدولار من الأسواق ولا كسره. إزاحة الدولار عملية معقّدة وتحتاج إلى وقت وجهود جبّارة. لكنّ ثمّة ثقلاً اقتصادياً يتقدّم ببطء. يتقدّم بلا مهاترات. “بريكس” ثلث إنتاج العالم، ونصف سكّان الكرة الأرضية، ودول طموحة. دول بمقدّرات طبيعية وثروات لا تلتهمها النيران. أسواق لا يُعرف أين تبدأ ولا أين تنتهي. البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والآن تنضمّ إليها مصر والسعودية والإمارات والأرجنتين وإيران وإثيوبيا.

منذ حرب أكتوبر، وجنوح الرئيس المصري الأسبق أنور السادات نحو السلم مع إسرائيل، ونحن أيتام أفراداً وعائلات وأحزاباً ودولاً وتكتلات وأفكاراً

لا تجانس سياسياً بين هذه الدول. ما بينها أكبر من الذي يربطها بأميركا والتحالف الغربي عموماً، أو يبعدها. بينها ما بين مالك والخمرة. بينها خلافات وقضايا شائكة تبدو عصيّةً على الحلّ. لكنّ بعضها يتقدّم في اتجاه  البعض الآخر رويداً رويداً، من دون شعارات فضفاضة، أو مغامرات غير محسوبة النتائج. دول ذوات ثقل اقتصادي وثقافي وسياسي، تحاول الخروج من القمقم الأميركي.

في سكّة زمن راجعين

مصر على السكّة الصحيحة. تمضي على هدي مقدّراتها وما لها وما عليها. حتماً ستخرج من أعباء ديونها التي تثقل كاهلها. ستصدّر وتستورد بعملتها المحلّية، وهذا أكثر ما يجذب في “بريكس”. فهنا أنت بعيد عن الدولار وسطوته وإن لمسافة قصيرة. ستفتح أسواقها لمن يشبهها، لمن يعرف قيمتها.

التغيير هذه المرّة سيأتي من الجهة الصحيحة. لن يقحمها مغامِر في أتون نزاعات لا تنتهي من اليمن إلى لبنان مروراً بالجمهورية العربية المتحدة. لن ينقسم العرب حولها، على هذه الطريق. الاقتصاد باب كلّ شيء. الشعوب والأفكار والثورات والعروبة. الاقتصاد امتحان كلّ شيء، عنده تُكرم الدول أو تُهان. لنا في نصف القرن الماضي عبرات.

اللبنانيّون يعرفون جيّداً

سلونا نحن اللبنانيين. شطرنا وطننا نصفين مع عبد الناصر وضدّه، في حضور مصر. وانقسمنا إلى متحاربين في غيابها. بنينا دولةً زمن الخيمة، حيث التقى الرئيس الأسبق فؤاد شهاب وعبد الناصر. بنينا مؤسّسات وكنّا على طريق مجتمع ووطن وجمهورية، يوم نظّمنا علاقتنا بمصر وضبطناها ورسّمنا الحدود، حدود الوطن الصغير والوطن الأكبر.

إقرأ أيضاً: “بريكس بلس”: فرصة جدّيّة لـ”عالم متوازن”… دونها عقبات

والآن؟ الآن مصر تعود. مصر تقف على قدميها. على أهراماتها ونِيلها. على آمالنا وطموحاتنا وسعينا إلى غد أفضل.

“ما لم نزِن مصر وزن الحقّ يبقى دمٌ على الضمير ويبقى أن يراق دمُ!”، يقول سعيد عقل.

“بريكس” تزن مصر حقّ وزنها، من دون أن تريق دماءً وتزعزع أوطاناً وتشرذم جماعات، ومن دون إكراه أو تهديد أو وعيد.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…