مصرف “حاكم لبنان”

مدة القراءة 6 د


قليلة هي السير في تاريخ لبنان الحديث التي تشبه تراجيديا رياض سلامة. من العبقري الأسطوري “حامي الليرة” طوال 25 سنة، إلى المسؤول عن انهيار العملة الوطنية.

تتساوى المبالغات في الصورتين. صورة البطل وصورة الجاني.

البطل

قامت شرعية رياض سلامة وشهرته على نجاحه في تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار طوال 25 سنة في بلد تتجمّع فيه كل العناصر العلمية المانعة لعملة مستقّرة. من نظام سياسي سيّء موبوء بحروب أطرافه الدائمة ونكساته السياسية، إلى الحروب الفعلية مع إسرائيل وأخرى في الداخل (اغتيال رفيق الحريري، حرب تموز 2006، حرب مخيم نهر البارد 2007، غزوة 7 أيار 2008، مسلسل من الاغتيالات استمرّ حتّى عام 2013)، وصولاً الى اندلاع الحرائق من حولنا لا سيما الحريق السوري الكبير وما رتّبه من لجوء كارثي إلى لبنان.

كل هذا لا يسمح بليرة ثابتة في مقابل الدولار، لا سيما في اقتصاد مدولر حتّى النخاع. ثبّتها رياض سلامة. ثباتها نجح في إعادة إنتاج الطبقة الوسطى اللبنانية بعد سنوات الحرب، وتوسعتها طوال عقدين ونصف. لكنّه أيضاً ثبّتها بمغامرة كبيرة بمستقبلنا كما نكتشف اليوم.

إقرأ أيضاً: “أساس” يكشف “جيش” صرّافين غير مرخّص: دياب يستكمل المؤامرة أم لا يعلم؟

وعلى نحو أدقّ، فإن تثبيت الليرة مع أكلافها، هي سياسة ثابتة للسلطة السياسية في لبنان، ووردت بنداً واضحاً في كلّ البيانات الوزارية التي منح البرلمان الحكومة الثقة على أساسها.

بيد أن تثبيت سعر الصرف لم يكن وحده ما امتص الودائع. فهو استخدم ودائع الناس لتغطية كلّ ما تقوم به الطبقة السياسية، كلّ الطبقة السياسية. عمل لمصلحة كامل هذه الطبقة على حساب الناس وأموال الناس، فصار ضرورة للجميع. وقف مع سعد الحريري وساير انقلاب حزب الله عليه يوم سُمّي نجيب ميقاتى لرئاسة الحكومة. وقف مع الأميركيين ومدّ يد الستر لحزب الله من تحت الطاولة.

ظلّ رياض سلامة يموّل حكومات الطبقة السياسية الواعدة بإصلاح لم ولن يأتي، مدركاً أين تذهب الأموال، وفي أيّ محرقة تترمّد ثروات اللبنانيين إلى غيرة رجعة.

هو يحتاج هذه الطبقة السياسية بقدر ما تحتاجه هي. و”صاحب الحاجة أرعن”، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب. عين رياض سلامة على رئاسة الجمهورية، وعين السلطة عليه لاختبار مدى مطواعيته وليونته وقدرته على التأقلم.

لم يكن رياض سلامة بحاجة لمن يذكّره بهذه المعادلة. فهو شهد كيف أن أحد أعرق المصرفيين اللبنانيين، فرنسوا باسيل، كاد يُزجّ به في السجن، وهو رئيس جمعية المصارف عام 2014، لأنّه قال ما كان يجب أن يقوله سلامة منذ سنوات. قال ببساطة شديدة إنّ استمرار المصارف بتمويل طبقة سياسية فاسدة أمر يجب ألا يستمرّ.

يعرف الحاكم أنّ للبطولات حدوداً، وأنّ صورته كبطل مالي نقدي تتطلّب تنازلات في مكان آخر، وهي معادلة ظلّت قائمة طالما أنّه قادر على تمويلها من ودائع اللبنانيين، وطالما أنّ كلفة التمويل مقدور عليها.

 

الجاني

صناعة صورة البطل مكلفة. نقلتنا مع حاكم مصرف لبنان إلى معادلة مصرف حاكم لبنان.  بحيث صار المصرف هو “إي تي إم ATM” الدولة وطبقتها السياسية، بدل أن يكون القطاع المصرفي مموّلاً للدورة الاقتصادية.

طوال 25 سنة كان ذلك ممكناً فقط إذا ما استطاع لبنان أن يستمرّ في جذب دولارات جديدة من الخارج.

وحين بدأ تباطؤ دخول الدولار إلى لبنان، استمرّ الحاكم في اللعبة على الرغم من إدراكه ارتفاع كلفتها، وأنّها باتت تهدّد الاقتصاد برمته. في السنوات الأخيرة لجأ إلى هندسات مالية، انتهت بنتيجة مأساوية على حدّ قول خصومه. بُدّدت مدّخرات اللبنانيين لحماية الليرة منذ ما قبل التسوية الرئاسية عام 2016 وانهارت الليرة. لا مدّخرات بقيت ولا ليرة صمدت، وتجمّد الاقتصاد بفعل امتصاص القطاع المصرفي الكتلةَ النقديةَ الأكبر عبر لعبة  فوائد خيالية، بدا أنّها تؤمّن لأصحابها أرباحاً مضمونة لا يتيحها أيّ نشاط اقتصادي آخر، خارج الاتجار بالسلاح أو المخدّرات!

لم يقرع الحاكم جرس الإنذار وهو يرى بأم عينه إحراق دولارات اللبنانيين في “فرن كهرباء لبنان” لتمويل مافيا النفط والكهرباء والمولدات.. نحو 45 مليار دولار حُرقت استرضاءاً للطبقة السياسية المسؤولة عن أزمة الكهرباء وفي رأسها الوزير الملك جبران باسيل

يتحمّل الحاكم مسؤولية الاستمرار في لعبة “مصرف حاكم لبنان” التي يعرف أنّها تحوّلت إلى جرعات عالية من السمّ، وأنّ الموت الاقتصادي بسببها ليس أعراضاً جانبية نادرة.

لكن كما كانت المبالغة في صورته كبطل ثمّة مبالغة في صورته كالجاني، بتحميله وحده المسؤولية من دون تحميل الطبقة السياسية بكافة أركانها مسؤولية الانهيار الذي وصلنا إليه.

المقاطعة العربية سياحةً واستثماراً، وأكلاف الحرب السورية على لبنان عبر النازحين وعبر موقف حزب الله فيها، وانخفاض أسعار النفط وتأثيرها في الفوائض المالية التي كان القطاع المصرفي اللبناني يستقطب نسباً منها، تلاقت جميعاً لتزيد من الضغوط على وفرة الدولار في السوق اللبناني، وزادت الحاجة لتدخّل مصرف لبنان لحماية الليرة.

لم يقرع الحاكم جرس الإنذار وهو يرى بأمّ عينه إحراق دولارات اللبنانيين في “فرن كهرباء لبنان” لتمويل مافيا النفط والكهرباء والمولدات.. نحو 45 مليار دولار حُرقت استرضاءاً للطبقة السياسية المسؤولة عن أزمة الكهرباء وفي رأسها الوزير الملك جبران باسيل…

لم يقرع الحاكم جرس الإنذار علناً، ولو أنه يقول إنه فعل داخل جدران الرئاسات، بينما يرى بأم عينه طبقة سياسية تتنافس على إغراء اللبنانيين بزيادة أجور القطاع العام، وإقرار “جريمة” سلسلة الرتب والرواتب قبل الانتخابات البرلمانية، من دون توفير موارد لتمويل السلسلة إلا عبر زيادة وهمية الضرائب، وبالتالي حقن الاقتصاد بالمزيد من جرعات السمّ.

كما المبالغة في صورة البطل، أيضاً المبالغة في صورة الجاني.

رياض سلامة جزء من المشكلة وليس المشكلة. إزاحته أو بقاؤه باتت تفصيلاً صغيراً في مسار انهياريّ كبير. والتمسّك به تحت عنوان مواجهة انقلاب حزب الله أو آخرين على آخرين، منازلة بلا أفق، وفي العمق لا تعني اللبنانيين… فالليرة تنهار ورياض سلامة في رأس الحاكمية. ونجاح الانقلاب أو عدمه لا يعني أكثر من وراثة أرض محروقة، ستكون عرضة لأشرس أنواع الحصار الدولي، بما يجعل الحصار الحالي مجرد نزهة.

ما عادت تُعالج مشكلة لبنان بأوراق اقتصادية مرتجلة ولا حتّى عبر برامج تقليدية من خلال صندوق النقد الدولي. لبنان بحاجة إلى مشروع إعادة إعمار اقتصادي ونقدي وسياسي ومؤسساتي. والمشروع هذا بحاجة إلى أكثر من عهد قوي وحكومة الصدفة وقوى سياسية غارقة في خطاب قديم  يشبه في مضمونه إعادة عرض مسلسلات رمضان خارج موسم الصيام…

وبالمناسبة كل عام وأنتم بخير..

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…