مسلسل ما وراء الطبيعة: تعريب الرعب

مدة القراءة 6 د


في تقديمه الذي سبق انطلاق عرضه على منصة “نتفلكس”، حرص مخرج مسلسل ما وراء الطبيعة عمرو سلامة، الذي قاد كذلك ورشة كتابة السيناريو، أن يشير إلى أمرين، حاول من خلالهما تبرير وتفسير الكثير من الخيارات الفنية التي حكمت منطق المسلسل وسيطرت عليه.

أوّلهما أنّه كان قارئاً نهماً للسلسلة الشهيرة التي أطلقها الكاتب الأيقوني أحمد خالد توفيق في التسعينات ضمن سلسلة كتب الجيب، وكانت الإطلالة العربية الأدبية الأولى على عالم الخوارق وما وراء الطبيعة.

الأمر الثاني تأكيده على أنّ ما يقدّمه هو منتج إبداعي مستقلّ ووسيط آخر، لا يطابق أحداث الروايات (سلسلة روايات ما وراء الطبيعة).

ربما كان المخرج يحاول أن يستبق النقاش الذي انفجر لاحقاً حول مدى مطابقة الشخصية المرئية على الشاشة لتمثّلات جيل قرّاء شخصية رفعت اسماعيل بطل الروايات، ومدى نجاحه في التعبير عنها بشكل يناسب طموحات هذا الجيل الذي يشكّل حالياً القسم الأعرض من الجمهور.

الكاتب كان قد عبّر مراراً عن حلمه بأن تتحوّل الروايات إلى مادة بصرية. لكن الانتقال من كتب الجيب إلى “مشاهدة الجيب” إذا صحّ التعبير ظلّ، على الرغم من الفاصل الزمني الكبير بين ظهور الروايات واقتباسها البصري، حدثاً مفاجئاً.

ربما كان المخرج يحاول أن يستبق النقاش الذي انفجر لاحقاً حول مدى مطابقة الشخصية المرئية على الشاشة لتمثّلات جيل قرّاء شخصية رفعت اسماعيل بطل الروايات، ومدى نجاحه في التعبير عنها بشكل يناسب طموحات هذا الجيل الذي يشكّل حالياً القسم الأعرض من الجمهور

السبب في ذلك أنّ مسلسل ما وراء الطبيعة هو الأوّل من نوعه عربياً، وتالياً فإنّه لم يبنِ خطابه ومنطقه وأسلوبه وخياراته الفنية والبصرية والكتابية انطلاقاً من تراكم الخبرات السابقة، بل حاول أن يخلق بصمته الخاصة في هذا المجال في حالة من الفراغ التام. وكان عليه أن يؤسّس كلّ شيء، وأن يخترع لغته وشخصياته، وأن يتعامل مع كلّ خياراته على أنّها رهان خطر.

خصوصية كتابة أحمد خالد توفيق تكمن في أنه قد يكون من الكتّاب العرب القلائل الذين يفكّرون بصرياً، وذلك يعني أنّه كان قد سبق له تقديم سينماه الخاصة أو رسمها كتابياً قبل تحويلها إلى مسلسل بوقت طويل، خالقاً بذلك شبكة من التحدّيات أمام كلّ من يحاول تنفيذ المهمة المستحيلة التي جعلها أمنيته ووصيته، أي نقلها إلى الشاشة.

أخذ عمرو سلامة هذه المهمة المستحيلة على عاتقه، فكانت الخيانة المزدوجة للفكر البصري للكاتب ونصه، هي وسيلته الخاصة في تخليده والوفاء العميق له، والدفع بالمشروع الذي كان سبق له تأسيسه لاكتساب مشروعية عالمية. والمقصود هو مشروع تعريب الرعب وتقديم هذا النوع برؤية عربية خالصة.

يشرعن هذا النزوع الذي حافظ عليه المسلسل وكرّسه كلّ خطابه. وقد يساعد في التخفيف من حدّة الحكم على الأخطاء الكثيرة التي ظهرت فيه، والتي كان بعضها غير مفهوم، بل بدا متناقضاً مع محطات أخرى برز فيها الإتقان والتقنية العالية.

لقد أهدانا المسلسل قبل كلّ شيء رعباً عربياً عالمياً يتأسّس على خطاب يحاكي مألوف الخيال العربي كمصدر للقصة، ويبني الحبكة، ويرسم التفاصيل مستمدّاً عناصرها من التراث الشعبي ومن الحكايات التقليدية الشائعة والمتوارثة. لكنّه في كلّ مرّة كان يوظّفها في سياق مترابط.

عنصر التمثيل كشف لنا عن حضور طاغٍ للممثل الكوميدي أحمد أمين الذي ظهر بشكل جديد، ونجح في تقديم نسخة المسلسل من الدكتور رفعت إسماعيل، طبيب الدم الشكّاك المتشائم الساخر الذي يؤمن بالعلم وخطابه البرهاني، لكنّه يسمح لقانون واحد غير مثبت علمياً بالدخول إلى عالمه وهو قانون ميرفي، الذي يعلن أنّه يجب على المرء توقّع الأسوأ لأنّ ذلك ما سيحصل فعلاً.

لقد أهدانا المسلسل قبل كلّ شيء رعباً عربياً عالمياً يتأسّس على خطاب يحاكي مألوف الخيال العربي كمصدر للقصة، ويبني الحبكة، ويرسم التفاصيل مستمدّاً عناصرها من التراث الشعبي ومن الحكايات التقليدية الشائعة والمتوارثة. لكنّه في كلّ مرّة كان يوظّفها في سياق مترابط

بحركة جسدية محكمة، يتحرّك أمين داخل مساحة الشخصية بسلاسة يمكن القول إنّها شكّلت رافعة المسلسل بأكمله، من دون أن يعني ذلك أنّ أداء باقي الممثّلين كان سيئاً. لكنّ طبيعة دوره ومساحته والطريقة المميّزة لأدائه جعلته بمثابة اكتشاف يمكن وصفه بأنه الأب المؤسّس لنجومية الرعب العربي.

ما يقال عن أحمد أمين تمثيلياً، ينطبق على خالد كمار مؤلف الموسيقى التصويرية للمسلسل، فقد بنى نظاماً موسيقياً يدخل في صلب الحدث ويتماهى معه حتّى يصبح جزءاً من حركته وإيقاعه، مفتتحاً بذلك نمطاً جديداً من الموسيقى التصويرية  يختلف، في بنائه وحرصه على التعبير عن جو الرعب، عن المألوف والسائد في تركيب الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات العربية.

ولعلّ الدفع بالمكان المحلي المصري العربي لاحتلال الواجهة المشهدية كميدان للحدث بمهارة تقنية عالية المستوى، هو ما جعل المسلسل يتصدّر قوائم المشاهدة في عدد من البلدان الأجنبية التي يعرض فيها.

وجد المشاهد الغربي نفسه أمام رعب غير غربي، فبدا الأمر بالنسبة إليه وكأنّه دعوة للدخول في عالم جديد. هذا الإغراء سمح بالتخفيف من حدّة الحكم على الأخطاء التي ظهرت في المسلسل والتعامل معه كتجربة ممتعة وطازجة.

المفارقة أنّ تلك الأخطاء التي كان أبرزها الشكل الذي قدّم من خلاله المخرج الوحوش، كانت بسبب رغبة غريبة بتقليد مشاهد ظهرت في أفلام غربية شهيرة. الوحش المسمّى “العساس” الذي ظهر في الحلقة الثالثة لم يكن سوى “كينغ كونغ” رديء، ونسخة غير متقنة من الغوريلا الشهير.

لعلّ الدفع بالمكان المحلي المصري العربي لاحتلال الواجهة المشهدية كميدان للحدث بمهارة تقنية عالية المستوى، هو ما جعل المسلسل يتصدّر قوائم المشاهدة في عدد من البلدان الأجنبية التي يعرض فيها

وهكذا، فإنّ عناصر الخلل والضعف في بنية المسلسل، تعود إلى استعماله عناصر تنتمي إلى عالم الخيال الغربي، بينما تتمركز عناصر قوّته وخصوصيته في حرصه على توظيف عناصر تمتلك مرجعية بصرية وخيالية عربية، من قبيل  توظيف بيت “الخضراوي” كمسرح يحتضن الحركة الدائرية للمسلسل، منه ينطلق الحدث الرئيسي، وفيه تنجز الخاتمة، من خلال العودة إليه.

إقرأ أيضاً: بورات 2: الفيلم الذي قد يتسبّب بخسارة ترامب

رمزية البيت عميقة الغور في البنية السيكولوجية العربية. لذا، كان اللعب على ثنائية الأمان والرعب موفّقاً ومناسباً. فالبيت موطن للأمان، لكنّه يتحوّل حين يُهجر إلى ميدان للرعب ومسكن للأشباح التي ترتدي ملامح الأمان المفقود.

أطلق المسلسل مجموعة من الكائنات العربية الأسماء والملامح، من شيراز، الشبح الرئيسي الذي يفتتح القصة، إلى العسّاس والندّاهة والجاثوم. وكذلك، فإنّ أسماء الشخصيات مثل طلعت ورفعت ورئيفة تضع المشاهد العربي في جوّ من الألفة فيحس بأنّه قادرعلى التماهي معها ومع ما تقوله وتفعله.

لقد أهدانا هذا المسلسل رعبنا العربي الأليف الساذج البريء والحميم والمألوف مع الجزء الأوّل من المسلسل، الذي يرجّح أن يصار إلى إنتاج أجزاء أخرى منه، نتوقّع أنها ستتسم بقدر أكبر من النضج والجمالية.

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…