مثلّث المكابرة الذي خرّب البلد

مدة القراءة 5 د


مثلّث حكم “الجمهورية الثانية”، وامتدّ من الاقتصاد إلى الثقافة، مروراً بالسياستين الداخلية والخارجية، هو المثلّث الذي جمع بين النيوليبرالية، والممانعة، والبونابرتيّة. النيوليبرالية من حيث الانشداد لنموذج في الاقتصاد حيث يتكفّل السوق، عبر الوهم، بتصحيح نفسه بنفسه، وليس على جهاز الدولة إلا حمايته، بالهراوة، من عين الحسد. والممانعة، من حيث الالتزام بنموذج في علاقات التغلّب الداخلية، وعلاقات التشبيك والاشتباك الإقليميّة، حيث تكون مصلحة منظومة الممانعة الممتدّة من بيروت إلى إيران معياراً أساسياً لقياس كلّ شيء، وللموقف من كلّ ظاهرة أو نفر. والبونابرتية على الطريقة اللبنانية، المتوارثة من زمن العونية الأولى إلى اللحودية – السيّديّة إلى العونية الثانية إلى اللحودية – السيّديّة الحالية التي تجد في الحكومة الحالية، أو رئيسها وقسم أساسي من أعضائها، تعبيراً لها. هذا في وقت يشتبه أنّنا نعيش “انشقاقاً” في السلطة التنفيذية، يتجاوز التصادم بين حسان دياب ورياض سلامة، إلى وجود حكومتين في البلد حالياً، واحدة تبدأ من حاكم مصرف لبنان إلى وزير المالية ووزراء آخرين، وثانية تمتدّ من حسّان دياب وتصل إلى السيّد.

إقرأ أيضاً: كيدية سياسية تبدأها الحكومة اليوم… مخالفة لكل القوانين

النيوليبرالية. الممانعة. البونابرتية. ومع كلّ واحدة منها “مركّب عظمة” حمّلت أكلافه للعدد الأكبر من الناس، لعموم الناس، لتسديدها. تصارعت أضلاع هذا المثلّث طويلاً، وتعايشت بمرارة لثلاثة عقود، وحكمها إلى حدٍّ كبير “توازن رعب” بين “نحن قادرون على إحراق البلد” وبين “نحن قادرون على إفلاس البلد”. وتحوّل هذا التعايش إلى الشكل الذي يتخذه التساكن المدمّر، الأميركي – السوري ثم الأميركي – الإيراني، مروراً بالتساكن بين منظومتي الممانعة والأنتي ممانعة الإقليميتين، على أرض لبنان. الآن، وقد تراجعت معالم التساكن بين المنظومتين الإقليميتين، وبين الأميركيين والإيرانيين إلى أبعد حدّ، يصير التعايش بين النيوليبرالية والممانعة والبونابرتية أصعب داخلياً، لكنه لا يزال مكمّلاً إلى الآن، إذ لا يسع النيوليبرالية المحليّة، والممانعة في صيغتها المحلية، والبونابرتية على الطريقة البلدية، الاستمرار إلا من ضمن المثلّث، وما تقوله الآن أنّه لو سقط هذا المثلّث انتهى البلد.

لأجل ذلك، المعركة اليوم، أيديولوجيّة قبل أيّ شيء آخر.

معركة من أجل لبنان الاجتماعي. لبنان تصاغ الرؤى الاقتصادية والمالية الحاكمة فيه من أجل مصلحة العدد الأكبر من ناسه، وليس من أجل قلّة قليلة تنمو حولها دوائر منتفعة يتسّرب منها العائد المالي تراتبياً، وأقلّ فأقلّ، من أعلى إلى أدنى.

ومَعركة من أجل لبنان الواقعي، في سياسته الخارجية وعلاقاته العربية والدولية، سياسياً واقتصادياً، أيضاً من وجهة ما فيه خير مصلحة العدد الأكبر من أناسه. فالخيار غير قائم بين لاواقعية بطوليّة وبين واقعيّة ذيليّة، إنما بين لاواقعيّة يتداخل فيها البطوليّ بالتبعيّ وبين واقعية منهجية، مصمّمة، تأخذ بعين الحسبان أنّ الواقع ليس دائماً ما تشتهيه، وأنّ المعادلات التي تحكم السياقات الإقليمية والدولية ليست دائماً ما تتمنّاها، وعلى الأغلب هي غير ما تشتهي وتتمنّى، لكن تنطلق من عدم المكابرة على المعادلات القائمة، ومن محاولة التجسير، في قدر المستطاع، بين المنطلقات الدستورية الحرّة ومصالح العدد الأكبر من اللبنانيين في البلد وفي المهاجر، وبين هذه المعادلات.

الممانعة والنيوليبرالية والبونابرتية صادرت لنا بلداً. استعادة هذا البلد عملية شبه مستحيلة الآن، لكنّها غير مستحيلة تماماً

وثالثاً لبنان القادر على التخلّص من الأوهام البونابرتية: أوهام المخلّص الذي يطرح نفسه تارة في ثوب مخلّص فوق الطوائف والطبقات (لحود، السيّد)، وتارة كمخلّص هو في الوقت نفسه فوق الجميع ومجسّد لطائفته ولمصالح مسيحيي الشرق (عون). لبنان القادر على التصالح بكلّ بساطة، وبكلّ صعوبة أيضاً، مع الفكرة الديموقراطية، مع فكرة أنّه لا يمكن أن يُبنى لا بالغلبة، ولا بالاشتياق إلى غلبة سالفة، ولا بالتطلّع إلى غلبة بديلة، ولا يمكن أن يُنقذ من خلال انتظار “منقذ”، بل أكثر ما هو بحاجة اليوم إلى انقاذه من أوهام “المنقذ”.

الممانعة والنيوليبرالية والبونابرتية صادرت لنا بلداً. استعادة هذا البلد عملية شبه مستحيلة الآن، لكنّها غير مستحيلة تماماً. شبه مستحيلة، لكنّها ضرورية، وكلّما انجلى وعي ضرورتها أكثر فأكثر، استطاعت أكثر توسيع الحدّ الفاصل بين “المستحيل” وبين “شبه المستحيل”. هي معركة أيديولوجية قبل شيء آخر، وليس معنى هذا أنّها معركة مثقفين أو نخب، بل معركة أيديولوجية في المعاش اليومي، وعلى أوسع نطاق، وضدّ ثلاثة أفكار مخرّبة في نفس الوقت: الممانعة والنيوليبرالية والبونابرتية. ربّما كانت هذه الأفكار الثلاثة مخرّبة بدرجة أقلّ لو أتيح لواحدة منها أن تجرّب لوحدها، كمرجعية لإدارة أحوال البلد دوناً عن سواها، لكن تحديداً قدرة الممانعة على التترّس وراء النيوليبرالية، وتسليم النيوليبرالية للممانعة بالإدارة التوجيهية لسنوات طويلة، و”التفاهمات” المزمنة بين الممانعة وبين البونابرتية، كلّ هذا ظلّ يمدّ هذا المثلّث بالقدرة على تخريب بلدنا، وتسميم معاشنا. إلى أن عمّ الكابوس وانتشر. إلى أن صارت المعركة أولاً أيديولوجية، وبامتياز، مع لبنان الاجتماعي، بوجه النيوليبرالية، ومع لبنان الواقعي، بوجه الممانعة، ومع لبنان الديموقراطية، بوجه البونابرتات.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…