ما الذي حدث في بيروت: مستودع ذخيرة فجّر نيترات الأمونيوم

مدة القراءة 8 د

 

ديفيد ورمسر (David Wurmser)*

 

دقائق قليلة بعد السادسة مساء الثلاثاء في 4 آب، اشتعلت النار في العنبر رقم 9 بمرفأ بيروت، بحسب ما تقول الحكومة اللبنانية إنه حادث ناتج عن تلحيم. وتُظهر الفيديوهات منذ اللحظات الأولى، دخاناً أسود، يدلّ على شحوم، أو مواد مشتعلة أخرى. بعد دقائق قليلة، انطلق انفجار كبير (مع افتراض أنّ انفجاراً صغيراً تسبّب بالحريق الأول)، وهو ما وسّع نطاق التفجير إلى العنبر رقم 12، فتهيّأ مسرح الحدث للانفجار الثالث والأخير بعد حوالى 20 دقيقة من الانفجار الأول، و30 ثانية بعد الانفجار الثاني.

ما الذي نعرفه عن الانفجارات؟

ليس لدينا أيّ فكرة عن ما الذي تسبّب بالحريق أو الانفجار الأول، وحتى لو كان هناك انفجار أول، ما دام أنّ أياً من الفيديوهات المتاحة حتى الآن لم يلتقط الثواني الأولى منه. لكن الدخان الصادر منه كان معتدلاً ومسودّاً، ومتسقاً مع حريق صناعي. ويبدو أن بعض الذخائر الصغيرة، أو ألعاباً نارية مزعومة، بدأت تتفجّر مُطلِقة دخاناً أبيض مائلاً إلى الرمادي. أحد الأفلام، صُوّر من مبنى ملاصق (ولا معلومات عن مصير المصوّر ومن غير المرجّح بنسبة عالية أن يكون قد نجا) يُظهر طقطقة وفرقعة قبل حدوث الانفجار الأكبر. قد يكون هذا ناتجاً عن احتراق ألعاب نارية، كما زعمت الحكومة.

إقرأ أيضاً: “ماس كهربائي” إسرائيلي في مرفأ بيروت؟

الانفجار الثاني كان أكبر بكثير، وأطلق دخاناً “قذراً” أبيض مائلاً إلى الرمادي، يتلاءم مع متفجرات قوية وحتى وقود صواريخ. بعض الذين شهدوا الانفجار الثاني أصرّوا منذ البداية على أنهم سمعوا هدير طائرات، لكن مع تمحيص أدق، بتحليل فيديوهات عدة وتعليقات الشهود أنفسهم لاحقاً، يتبيّن أنّ الصوت الهادر داخل النار، ناتج عن انطلاق محرّكات الصواريخ بدلاً من تحليق الطائرات. واستمرت انفجارات أقل قوة، مع ومضات داخل العنبر وفوقه. وفي حين أنه لا يستبعد احتراق الألعاب النارية، بعد الانفجار الثاني، إلا أنّ الدخان الكثيف القذر الرمادي، والصوت الذي يشبه أزيز الطائرات، بدلاً من تعالي صوت الصفير، بل غياب مشهد الانفجارات المتطايرة في كلّ اتجاه، والذي يشابه انفجارات الألعاب النارية (بما أنّ سقف العنبر قد انفجر في ذلك الوقت)، فإن كلّ ذلك، يشير إلى أنّ ما كان يشتعل هو صواريخ، وقذائف هاون، وقذائف أخرى. وبعد حوالى 20 ثانية عقب الانفجار الثاني، امتدّت النار المتصاعدة على نحوٍ درامي، بالتزامن مع الومضات البيضاء داخل العنبر وفوقه، وهو ما يتسق مع اشتعال متفجرات من عيارات صغيرة، كقذائف الهاون والصواريخ.

قبل ظهور “غيمة ويلسون”، انتشرت موجة كبيرة ضاغطة في أنحاء المدينة، وتصاعدت خلف الغيمة على شكل عمود شاهق من الدخان البنّي الكثيف المائل إلى الحمرة، وهو ما يدلّ غالباً على انفجار قنبلة نيترات أمونيوم مكثّفة من نوعية عالية

بعد 28 ثانية من الانفجار الثاني، تبعه الانفجار الأقوى الذي كان قوياً بما فيه الكفاية، مع رطوبة عالية بما فيه الكفاية، لإنتاج غيمة ويلسون (Wilson cloud) كاملة. [عندما تقع انفجارات نووية أو تقليدية كبرى في الهواء الرطب، يحصل تبريد مؤقت للهواء وتتشكّل السحابة]. وفي حين أنّ بعضهم قد يقول إنه انفجار الوقود في الهواء، لكن الهالة المكثّفة تبخّرت فوراً، وهو ما يتلاءم مع غيمة ويلسون أكثر منه مع انفجار الوقود في الهواء. وفي هذا الإطار، فإنّ غيمة ويلسون لا تظهر فيها الومضة الصفراء الأوّلية التي تظهر لدى انفجار الوقود في الهواء. كانت في الواقع، موجة ضاغطة وفقاً لعلماء الفيزياء، لا موجة صدم، تنتج عن قنبلة دفع هوائي. ومن حسن الحظ، أنّ الأمر بهذا الشكل، وإلا كان الضحايا بأرقام فلكية، لو كانت موجة صدم.

التحليل اللاحق لآثار الانفجار يشير إلى أنه معادلاً لـ 1,1 كيلو طنّ – ما يوازي قنبلة نووية تكتيكية صغيرة أي حوالى 1/11 حجم قنبلة هيروشيما التي كانت بقوة 12 إلى 15 كيلو طن نووي.

وقبل ظهور “غيمة ويلسون”، انتشرت موجة كبيرة ضاغطة في أنحاء المدينة، وتصاعدت خلف الغيمة على شكل عمود شاهق من الدخان البنّي الكثيف المائل إلى الحمرة، وهو ما يدلّ غالباً على انفجار قنبلة نيترات أمونيوم مكثّفة من نوعية عالية. أما نيترات الأمونيوم من الدرجة التي تستخدم كسماد، فإنها تميل إلى أن تُفرز دخاناً زيتياً أكثر سواداً عندما تنفجر.

تقول الحكومة اللبنانية إنّ أكثر من 2700 طن من فوسفات الأمونيوم خُزّنت في العنبر رقم 12، وهي صودرت من سفينة مسجّلة في مولدوفيا، روسوس Rhosus، عام 2013. وإنّ حجمها يعادل تقريباً لانفجار 2700 طن (2,7 كيلو طن) من نيترات الأمونيوم التي تنتج عنها، مع الافتراض أنّ هذه الكمية من النوع الأرقى المستعمل للقنابل العسكرية، وليس من النوع المستعمل في السماد (نسبة تحويل نيترات الأمونيوم من النوع المتفجّر إلى تي أن تي TNT هو 0,4%)، أي 1,1 كيلو طن. ويبدو على بعض الأكياس التي تضمّ هذه المادة ماركة نيتروبريل Nitropril، وهي مستعملة للتفجير، لا لتسميد الحقول. وهي سبب الانفجار الكبير.

علينا الالتفات إلى أنّ نيترات الأمونيوم لا يشتعل بنفسه. وبالفعل، فإن حاويات هذه المادة في الولايات المتحدة عليها العبارة التالية: “يمكن أن تنفجر في حالة الانحباس وتوافر حرارة مرتفعة، لكنها ليست جاهزة للانفجار”. يمكن أن تنفجر إن وقعت انفجارات بجانبها. وهذا ما أشار إليه وزير الداخلية اللبناني محمد فهمي في 6 آب. لذا، التوصل إلى حقيقة الانفجار الثاني هو أمر حاسم جداً، ومن المهم جداً حثّ الحكومة اللبنانية على إعطاء معلومات إضافية بشأن المواد التي تسبّبت بالانفجار الثاني – ومن الأرجح أن تكون ذخائر وصواريخ. من دون هذه المواد، لم تكن الكارثة لتقع أبداً.

يعتقد كيدار أنّ العنبرين 9 و12 هما المقصودان بـ “بوابة فاطمة”. فهما قريبان من الماء، ما يعني أنهما الأَوْلى بتفريغ السفن من دون رصدها عبر الأقمار الصناعية أو المراقبة الجوية

وكملاحظة أخيرة، ادّعى بعض المعلّقين بأنّ الانفجار الأخير يظهر وكأنه انفجار وقود في الهواء يسمّى HMX (أوكتاغن Octagen، أو C4H8N8O8) وهو وقود صاروخ انفجر عَرَضاً. إنّ نجاة الأهراءات هي إشارة إلى أنّ الحمولة التي انفجرت كانت متشكّلة نحو الأعلى – وهو يتلاءم مع رأس حربي موجّه نحو السماء. ودخان الانفجار الثالث، في أيّ حال، كان أحمر معتماً وصدئاً، وهو اللون النموذجي لانفجار نيترات الأمونيوم، وطبقة الغبار التي انتشرت على مساحة واسعة في كلّ مكان من بقعة الحادث، هي بقيّة نموذجية من نيترات الأمونيوم. وبالنسبة إلى مصعد الأهراءات فقد نجا في الجانب الأبعد من الانفجار، لا الذي يواجه الانفجار نفسه. من المحتمل جداً أنّ الحبوب في الأهراءات استوعبت الطاقة الدافعة للانفجار، مثلما يفعله الرمل أو الماء. هذا التفسير البديل لا يمكن استبعاده – بل هو الأرجح – وهو أنّ المادة المتفجّرة القوية التي تُستعمل في وقود الصواريخ ذات التدمير المكثّف، كانت هي مصدر الانفجار الثاني (الذي يبدو أنه وقع في العنبر رقم 9، وكان لونه أبيض، وحجمه كبيراً في جهة اليمين – وهو ما يتلاءم مع انفجار صاروخ)، وكان أيضاً مصدر النيران المتصاعدة، والمزمجرة، وهي التي كانت الصاعق المتسبّب بالانفجار الثالث، الكبير.

بالنسبة إلى العنبرين 9 و12، ثمّة اعتقاد شامل لدى اللبنانيين بأنّ حزب الله يدير المناطق المفصلية في المرفأ، كحكومة داخل حكومة. يقول موردخاي كيدار (Mordechai Kedar) وهو رئيس برنامج دراسة الإرهاب في مركز هرتزيليا الإسرائيلي: ثمّة كثير من الفيديوهات لمسؤولين في حزب الله يتفاخرون بـ “بوابة فاطمة”، وهو الاسم المستعار المعطى لمرفئهم المستقل والسرّي في بيروت، والذي هو خارج سيطرة الحكومة اللبنانية وبعيداً عن أنظارها على نحوٍ كامل. وفي هذه الفيديوهات، من اللافت للنظر أنّ حزب الله يتفاخر بأنّ “بوابة فاطمة” في مرفأ بيروت، حيث يمكنهم الدخول إليه والخروج منه كيفما يشاؤون، الاستيراد والتصدير بحرية، والتهريب دون أيّ عوائق، ليس فقط من دون تدخّل إدارة الجمارك، بل غالباً من دون معرفتها.

ويعتقد كيدار أنّ العنبرين 9 و12 هما المقصودان بـ “بوابة فاطمة”. فهما قريبان من الماء، ما يعني أنهما الأَوْلى بتفريغ السفن من دون رصدها عبر الأقمار الصناعية أو المراقبة الجوية، وهما قريبان جداً من مخرج المرفأ كذلك. العمّال اللبنانيون في المرفأ يعتبرون أنفسهم أنّ العنبر 12 منطقة محصورة بـ حزب الله.

هذان العنبران، الأقربان إلى مياه البحر، كانا بوضوح الأكثر تلاؤماً للحركة والنقل السريعين، لا للتحزين الطويل المدى. وبالفعل، طالبت سلطات المرفأ بإزالة نيترات الأمونيوم إلى مستودعات أبعد، لكن مطالباتهم قوبلت بالصمت.

 

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

هو ضابط استخبارات احتياط سابق في البحرية الأميركية، ويتمتع بخبرة كبيرة في مسائل الأمن القومي، حيث عمل في وزارة الخارجية، وفي البنتاغون، ومع نائب الرئيس السابق ديك تشيني، ومجلس الأمن القومي. وكان له دور بارز في التمهيد للحرب على العراق عام 2003.

 

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تتوغّل جنوباً: هذه هي حرّيّة الحركة!

بعد انقضاء نصف مهلة الستّين يوماً، الواردة في اتّفاق وقف إطلاق النار، ها هي القوّات الإسرائيلية تدخل وادي الحجير. ذلك الوادي الذي كان في عام…

الموقوفون الإسلاميّون… ملفّ أسود حان وقت إقفاله

عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملفّ، الذي طالت مأساته على…

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…