“اتفاقيات أوسلو لتحقيق السلام الإسرائيلي الفلسطيني ما تزال حيّة، وإعادة إحيائها ممكنة في المفاوضات الأميركية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية وعندما يغادر بنيامين نتانياهو ومحمود عباس، الزعيمان الحاليان لإسرائيل والسلطة الفلسطينية، المشهد”. هذا ما خلص إليه السفير الأميركي السابق مارتن إنديك بمقالة له في مجلة “إيكونوميست”.
إنديك الذي كان المساعد الخاص للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأوسط وقت توقيع اتفاقيات أوسلو، ثمّ سفيراً لبلاده لدى إسرائيل، من عام 1995 إلى عام 1997، ومن عام 2000 إلى عام 2001، ولعب دوراً مهمّاً في مفاوضات كامب ديفيد للسلام في عام 2000، وكان المبعوث الخاصّ للرئيس باراك أوباما في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية عام 2013، تخوّله تجربته الدبلوماسية الإقرار بأنّ “اتفاقيات أوسلو فشلت لأنّ أميركا وإسرائيل تخلّتا عن العملية التدريجية وحاولتا التوصّل إلى اتفاق نهائي ما يزال بعيد المنال حتى يومنا هذا.
معجزة هادئة لحياة طبيعية
“قبل 30 عاماً تصافح إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، في حديقة البيت الأبيض، وتعهّدا بإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. على الرغم من أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تشارك في المفاوضات، وقف الرئيس بيل كلينتون خلف الرجلين ويداه ممدودتان رمزاً للدعم الذي ستقدّمه بلاده لصانعي السلام. ووعد في خطابه الإسرائيليين والفلسطينيين بـ “معجزة هادئة لحياة طبيعية”.
لكنّ المأساوي أنّه لم يكن هناك هدوء ولا حياة طبيعية في حياتهم منذ ذلك الحين. إذ دفن الأمل في السلام تحت وابل من العنف وصدام متواصل بين الهجمات الإرهابية الفلسطينية والأعمال الانتقامية الإسرائيلية.
لم يتمكّن نتانياهو من التخلّص من عملية أوسلو، نظراً للدعم الدولي الواسع الذي حظيت به، فسعى إلى تعطيلها
قد يمكن اعتبار الاتفاقية الإطاريّة الموقّعة في عام 1993، وهي الأولى من اثنتين تُعرفان باتفاقيات أوسلو، مبادرة سلام فاشلة. ولكن هل كانت الاتفاقيات هي التي فشلت، أم رجال الدولة والساسة هم الذين فشلوا في اغتنام الفرص التي وفّرتها الدبلوماسية؟ الجواب مهمّ. عندما يغادر بنيامين نتانياهو ومحمود عباس، الزعيمان الحاليان لإسرائيل والسلطة الفلسطينية على التوالي، المشهد، سيكون من الممكن إعادة تشكيل المخلّفات الدبلوماسية التي خلّفتها أوسلو وتحويلها إلى جهد حقيقي لمنح السلام فرصة أخرى.
يُذكَر اتفاق أوسلو عموماً باعتباره اتفاقاً مثالياً بل خيالياً. في الواقع، كان مبنيّاً على افتراض واقعي بأنّ أيّاً من الطرفين لم يكن مستعدّاً لإحلال سلام دائم. ولذلك تمّ تصميمه عمداً لتخفيف الصراع، لا إنهائه. ولم يتضمّن أيّ بنود لإقامة دولة فلسطينية أو ترتيبات أمنيّة لازمة، ولم يذكر القدس، ولا اللاجئين الفلسطينيين. كانت هذه جميعها “قضايا الوضع النهائي” يتمّ التعامل معها لاحقاً باعتبارها قضايا معقّدة ومشحونة للغاية دينياً وعاطفياً بعد عقود من الصراع الدموي. وبدلاً من ذلك، خطّط أوسلو لمصالحة تدريجية، وأن تضطلع السلطة الفلسطينية، التي يشكّلها تدريجياً، بالمسؤولية عن الأرض والسكّان الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزّة، بالتوازي مع الانسحاب التدريجي للقوات الإسرائيلية.
بعد مرور عامين على الاتفاق، بدا وكأنّه نجح. لم يكن عرفات سهلاً. فالحكم والشفافية وسيادة القانون ليست بأمور بديهية بالنسبة “للإرهابي اللدود” المفترض أن يصلح نفسه. لكنّ رابين وشيمون بيريز، شريكه في صنع السلام، لم تكن لديهما أيّة أوهام بشأن من يتعاملان معه. لكنهما وجدا طرقاً لتشجيع عرفات على تحمّل مسؤولية أكبر في حفظ النظام بين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرته. لقد بدأ بناء الثقة بين القادة، لكن ليس بين الشعبين، تماماً كما تصوّرت عملية أوسلو.
جاءت الذروة مع اتفاق أوسلو الثاني في أيلول 1995، فحلّت محلّ مصافحة رابين المتردّدة في حديقة البيت الأبيض ذراع عرفات الأخوية على كتف رابين عندما غادرا حفل التوقيع. في ذلك المساء ألقى عرفات خطاباً حماسياً حول السلام مع إسرائيل لدرجة أنّ رابين قال عنه إنّه بدا وكأنّه “يهودي بعض الشيء” في إلقائه الخطب. لكن بعد ستّة أسابيع اغتيل رابين على يد متطرّف يهودي مناصر للاستيطان. انخرط بيريز في العمل، لكن تغلّبت عليه الجهود المنسّقة التي بذلتها “حماس” و”الحزب” المدعوم من إيران و”الجهاد الإسلامي” لإسقاط اتفاقيات أوسلو. وفي الانتخابات التي تلت، عارض نتانياهو أوسلو وهزم بيريز بفارق ضئيل.
يُذكَر اتفاق أوسلو عموماً باعتباره اتفاقاً مثالياً بل خيالياً. في الواقع، كان مبنيّاً على افتراض واقعي بأنّ أيّاً من الطرفين لم يكن مستعدّاً لإحلال سلام دائم
لم يتمكّن نتانياهو من التخلّص من عملية أوسلو، نظراً للدعم الدولي الواسع الذي حظيت به، فسعى إلى تعطيلها. استغرق الأمر من كلينتون عامين لإقناعه بتنفيذ المرحلة الثانية من عملية أوسلو المؤقّتة، التي أسفرت عن انسحاب إسرائيل من نسبة ضئيلة تبلغ 13% من الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، سمح نتانياهو لحركة الاستيطان بالتوسّع في الضفة الغربية وقطاع غزّة، بما يتعارض مع روح أوسلو. لكنّ ذلك لم يكن كافياً لتهدئة ناخبي نتانياهو اليمينيّين الذين أطاحوا بحكومته عندما جرؤ على الموافقة على الانسحاب من الأراضي.
كانت أوسلو ما تزال تتمتّع بالقدر الكافي من الدعم في إسرائيل حين فاز إيهود باراك، خليفة رابين في حزب العمل، في الانتخابات. لكنّ حكومته الائتلافية كانت هشّة، وتشكّك في قدرته على الاستمرار في خطوة تدريجية أخرى، فأقنع كلينتون بالتخلّي عن شرط أوسلو القاضي بانسحاب مؤقّت آخر ومحاولة حلّ جميع المسائل المتعلّقة بالوضع النهائي فوراً في كامب ديفيد في تموز 2000.
سعى باراك إلى اتفاق سلام لإنهاء الصراع والمطالبات، وهو نقيض أوسلو. بينما كان عرفات صادقاً بما يكفي ليقول لكلينتون إنّه غير مستعدّ لإنهاء الصراع، وأصرّ بدلاً من ذلك على الانسحاب المؤقّت. لكنّ عقارب الساعة كانت تدقّ لانتهاء ولاية كلينتون، وكانت أغنية السلام الكامل أكثر جاذبية من محاولة أخرى للتوصّل إلى صفقة. لذا جرّ كلّ من كلينتون وباراك عرفات إلى كامب ديفيد وقدّما له عرضاً سخيّاً. وعندما رفض عرفات، ألقى كلينتون عليه اللوم في الفشل، وأعلن باراك أنّ إسرائيل ليس لديها شريك فلسطيني للسلام.
اشتعل الشارع الفلسطيني غضباً، ووُجّهت بعض الأسلحة التي قدّمتها إسرائيل للشرطة الفلسطينية نحو الجنود الإسرائيليين. ردّت إسرائيل بغضب أيضاً. رفض عرفات مواجهة شعبه. واستمرّت الانتفاضة التي تلت ذلك خمس سنوات، وأسفرت عن مقتل الآلاف من الجانبين. وعلى الرغم من كلّ جهودهم، لم يتمكّن الرؤساء الأميركيون، من كلينتون إلى دونالد ترامب، من إحياء عملية السلام.
إقرأ أيضاً: أوسلو… بعد ثلاثين سنة
من المفارقات أنّ اتفاقيات أوسلو تظلّ الاتفاقيات الملزمة الوحيدة التي تمّ التوصل إليها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. فهي تشكّل مصدر شرعية السلطة الفلسطينية، التي ما تزال، على الرغم من ضعفها، مسؤولة عن حكم الفلسطينيين في الضفة الغربية والسيطرة، اسمياً على الأقلّ، على 40% من الأراضي هناك. وتنظّم الاتفاقيات العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي شباط، أعادت الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نتانياهو، التي تضمّ أحزاباً يمينية متطرّفة عازمة على تدمير السلطة الفلسطينية، التأكيد على اتفاقات أوسلو. وعندما يصبح لدى الجانبين في نهاية المطاف قادة مستعدّون لبذل جهد حقيقي لتحقيق المصالحة وقادرون على حشد الدعم الشعبي لها، فإنّ بند أوسلو البعيد المنال بشأن تسليم المزيد من أراضي الضفة الغربية يظلّ قائماً، وهي خطوة أولى ممكنة لإعادة إطلاق عملية تدريجية لاستعادة الثقة.
هل هو أمر بعيد المنال؟ هذا بالضبط ما تناقشه أميركا والسعودية والسلطة الفلسطينية باعتباره العنصر الفلسطيني في أيّ اتفاق تفاوض الولايات المتحدة الأميركية عليه إسرائيل والمملكة.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا