تزامن وجود وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في بيروت مع اعتراض مقاتلة أميركية (لا إسرائيلية!) طائرة مدنية إيرانية في الأجواء السورية كانت في طريقها إلى بيروت، فهل الأمر محض مصادفة؟!
هذا يعيدنا إلى سؤال أساسي طرحته الزيارة حول حقيقة الموقف الفرنسي من تصاعد وتيرة الضغوط الأميركية على “حزب الله” من ضمن سياسة الضغوط القصوى التي تتبّعها واشنطن ضدّ طهران.
إقرأ أيضاً: لودريان يفرش غطاءً دولياً على مشروح الحياد
في آذار الماضي، دعا وزير المالية الفرنسية برونو لومير لفصل مساعي تعافي لبنان عن المواجهة التي تخوضها واشنطن مع طهران. ما عكس وقتذاك توجّهاً فرنسياً للتمايز عن الموقف الأميركي المتشدّد حيال “حزب الله”، أو بالحدّ الأدنى تمنّياً باريسياً على واشنطن لتحييد لبنان قدر الإمكان عن ارتدادات صراعها مع طهران. وفي الآونة الأخيرة، تردّدت معلومات عن محاولات قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتلمّس إمكانات ليونة أميركية وعربية خليجية في التعامل مع الملف اللبناني. لكنّها محاولات بقيت دون السقف المأمول فرنسياً. فالضغط الأميركي على “حزب الله” لم يتراجع، بدليل التصريحات المتتالية لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ضدّ الحزب، وآخرها في 8 تموز الجاري حيث أكد مواصلة بلاده فرض العقوبات على الشخصيات الإرهابية في حزب الله. وذلك بعد أن كان قد أعلن في 24 حزيران الماضي استعداد واشنطن لمساعدة “حكومة لبنانية غير مرتهنة لحزب الله”. هذا فضلاً عن تصريحات متكرّرة أطلقها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط دايفد شينكر، الذي يربط بين الفساد في الدولة اللبنانية وبين التمويل غير القانوني لـ”حزب الله”!
تردّدت معلومات أنّ السلطات الفرنسية كانت قد أبلغت لبنان أنّ ما يسري على “مؤتمر سيدر” لجهة قدرة فرنسا على التأثير في مجرياته لا يسري على صندوق النقد الدولي حيث التأثير الأساسي للولايات المتحدة الأميركية
كذلك، فقد أكدّ مبعوث وزارة الخارجية الأميركية إلى سوريا جويل رايبورن، الأربعاء، أنّه لا يوجد استثناءات في قانون قيصر لأحد، وأن على اللبنانيين أن يكونوا سعداء بهذا القانون لأنه يركّز على نظام بشار الأسد الذي يمتصّ دماء الاقتصاد اللبناني. كلّ ذلك دليل على تصلّب الموقف الأميركي حيال الملف اللبناني، في وقت لم تستطع فرنسا إثبات قدرتها على إقناع واشنطن بتخفيف ضغطها على حزب الله “الذي يتأثّر به لبنان كلّه”. حتّى إنّ أوساطاً متابعة قد لمست تبدّلاً في خطاب السفير فوشيه الذي كان يركّز كثيراً على ضرورة الحوار مع “حزب الله”، وما عاد يتطرّق إلى الموضوع بالوتيرة نفسها مؤخّراً، في وقت لا يتوانَى عن التعبير أمام من يلتقيهم عن مدى سخطه من الطبقة السياسية اللبنانية!
هذا يعطي الإصلاحات الهيكلية التي تطالب بها المجموعة الدولية الداعمة للبنان، تفسيراً سياسياً مباشراً. الأمر الذي يُرخي بظلاله على مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي. تلك التي أكّد الأمين العام لحزب الله أنّها مفاوضات مشروطة بـ”السيادة اللبنانية”. ولذلك فقد تردّدت معلومات أنّ السلطات الفرنسية كانت قد أبلغت لبنان أنّ ما يسري على “مؤتمر سيدر” لجهة قدرة فرنسا على التأثير في مجرياته لا يسري على صندوق النقد الدولي حيث التأثير الأساسي للولايات المتحدة الأميركية. وليس قليل الدلالة في هذا السياق قول لودريان من بيروت: “لا يتوهمنّ أحد أنّه ثمّة بدائل تسمح للبنان بالخروج من أزمته سوى التفاوض مع صندوق النقد الدولي”.
وقد رشحت أخبار رجّحت حصول لقاء بين الوزير الفرنسي وبين وفد من “حزب الله”، بناء على “تواصل فرنسي مع الحزب سبق الزيارة”. لكن زيارة الضيف الفرنسي لـ”مؤسسة عامل” الإنسانية في حارة حريك اعتُبِرَت “إيماءة” إيجابية فرنسية تجاه حزب الله، الذي ترفض باريس تصنيف جناحه السياسي إرهابياً على غرار الدول الأوروبية الأخرى التي سلكت هذا الاتجاه، وكان آخرها ألمانيا في نيسان الماضي.
إلى جانب هذا، ما استطاعت مصادر الحكومة اللبنانية أن تكبت فرحتها بالزيارة باعتبارها فكّا دولياً للحصار عن لبنان، مع أنّ لودريان كان قاسياً مع رئيسها حسّان دياب بقوله له إنّ فرنسا هي التي تنتظر لبنان (وهو ما قاله أيضاً للرئيس ميشال عون)، وأنّ على لبنان أن يستعيد الثقة التي فقدها. والجملة الأقوى: “ساعدوا أنفسكم لنساعدكم”.
“الرسالة الحازمة” هي تلك التي وجّهها لودريان لدياب والتي نقل فحواها السفير الفرنسي برونو فوشيه في حسابه عبر “تويتر”
أكثر من ذلك: سأل المسؤول الفرنسي رئيس الحكومة ما إذا شاهد فيلم “التيتانيك” ولم ينتظر الجواب، بل أكمل قائلاً: “الباخرة تغرق وركّابها يرقصون في المطعم الفاخر. أنتم تمارسون رياضة المشي والبلد ينزل إلى قعر الإفلاس”.
عملياً وضع الوزير الفرنسي كرة الأزمة في ملعب الحكومة، سواء لجهة الزيارة بذاتها والتي تنفي حجّة الحكومة بأنّ سبب الأزمة حصار دولي على لبنان، أو لجهة تحميل الحكومة مسؤولية التأخير في بتّ الإصلاحات المطلوبة، قاطعاً الطريق أمام دياب الذي كرّر الحديث عن عقبات تحول دون تنفيذ تلك الإصلاحات.
“الرسالة الحازمة” هي تلك التي وجّهها لودريان لدياب والتي نقل فحواها السفير الفرنسي برونو فوشيه في حسابه عبر “تويتر”، كما نقل قول الوزير الفرنسي لرئيس الجمهورية” إنّ “فرنسا ستتحرّك إن تحرّك لبنان”. رسالة أشبه بإنذار أخير كشفها الضيف الفرنسي نفسه في تصريحاته من قصر الصنوبر (حيث تناول طعام الغذاء وليس في السرايا الحكومية) عندما شكّك في الإنجازات التي تدّعي تنفيذها السلطة، حكومةً وعهداً، لاسيما بقوله إنّ “ما أنجز في قطاع الكهرباء غير مشجّع”. وهو بذلك يصوّب على العهد نفسه لكون “التيار الوطني الحر” هو المعنيّ الأساسي بهذا القطاع. ثمّ أكدّ لودريان أنّ الاصلاحات الهيكلية الضرورية ليست مطلباً فرنسياً وحسب، إنّما تلبّي تطلّعات الأسرة الدولية والشعب اللبناني الذي لم تلق مطالبه آذاناً صاغية منذ 17 تشرين 2019. أي إنّ الوزير الفرنسي أراد إفهام الحكومة والعهد أنّه منحاز إلى “تطلّعات اللبنانيين”، أي إلى المتحجّين والمتظاهرين، وأنّ الموقف الفرنسي لجهة الإصلاح المالي والاقتصادي لم يتبدّل منذ مؤتمر “سيدر” في نيسان 2018، وهو موقف مجموعة الدول الداعمة للبنان التي اجتمعت في باريس خلال كانون الأول 2019. تلك التي ربطت أيّ مساعدة للبنان بتنفيذه الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة ونأيه بنفسه عن التوتّرات والأزمات الإقليمية.
الأهمّ هو لقاء الوزير الفرنسي مع البطريرك الماروني بشارة الراعي، حيث أشار بيان الصرح البطريركي إلى أنّ الضيف شدّد على “سيادة لبنان” التي “تستلزم أن يكون لبنان بلداً محايداً بعيداً عن الصراعات والمحاور”. وما لم يقله الضيف الفرنسي بلسانه من بكركي الخميس، قاله بالفم الملآن الجمعة عندما فسّر كلام الراعي عن الحياد الإيجابي على أنّه “بالنسبة لي” تحييد لبنان عن الأزمات في المنطقة. أي إنّه التزم بموقف فرنسا التقليدي، ولم يعطِ طرح “الحياد” تفسيرات جديدة. مع الإشارة إلى أنّ الراعي كان قد استبق اللقاء باستضافته اجتماعاً للبطاركة الكاثوليك في الديمان صباح الخميس صدر عنه بيان دعا لتحييد لبنان عن الصراعات في المنطقة. وهو ما يؤشّر إلى دعم فاتيكاني لـ”طرح الحياد”، أقلّه في حدود تفسير لودريان، المتطابق مع بيان البطاركة الكاثوليك.
في الخلاصة، بدت الزيارة الفرنسية بلا أفق، ولم تقدّم جديداً في السياسة، ما خلا ربما دعم الموقف البطريركي، وتجديد الثوابت الأوروبية من الإصلاحات. لكنّ الطائرة الأميركية حملت الرسالة الأقوى.