لماذا بدّل إردوغان موقفه في غزّة؟

مدة القراءة 7 د


كان الحديث يدور في أنقرة وتل أبيب بعد انفجار الوضع في غزّة عن احتمال عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى خطّ البداية أو إلى ما كانت عليه قبل 4 أعوام عندما كان التوتّر في ذروته. ليس انفجار الوضع والتصعيد السياسي بين البلدين هما وحدهما المطروحين اليوم، بل المزيد من تراجع وتدهور العلاقات التركية الأميركية بسبب تصلّب واشنطن في قرار دعمها لإسرائيل على حساب التوازنات الحسّاسة في الإقليم وتعريض مصالح العديد من حلفائها وشركائها وبينهم تركيا للخطر.
لم تقتنع القيادات التركية بما تسوّقه الإدارة الأميركية من مزاعم لتبرير العلاقة بين ما يجري في غزّة وبين قرار البنتاغون تحريك قوات الردّ السريع التابعة لمشاة البحرية الأميركية (المارينز) باتجاه شرق المتوسّط. وهل القلق الأميركي من احتمال تحوّل الحرب في غزّة إلى صراع إقليمي يعطيها حقّ تحريك أساطيلها وإعلان الاستنفار العامّ على حدود منطقتنا؟ ثمّ ما الذي قد يحدث إذا ما قرّرت موسكو وبكين وبعض العواصم الأوروبية تقليد واشنطن وتحويل سواحل المتوسط المطلّة على تركيا ولبنان وإسرائيل وسوريا إلى بحيرة سفن حربية وحاملات طائرات وغوّاصات في حالة الجهوزية للقتال؟ ومن الذي سيحارب من ولماذا؟

هذا ما حصل مع إردوغان
بين ما دفع إردوغان إلى تبديل موقفه والتصعيد ضدّ تل أبيب وواشنطن والحديث عن ارتكاب جرائم حرب إسرائيلية ضدّ المدنيين في غزّة وصوله إلى جملة من القناعات بينها:
– خسارة الفلسطينيين في غزّة تعني خسارة الكثير من اللاعبين الإقليميين بينهم تركيا.
– التحذيرات الإسرائيلية الأميركية اليومية من احتمال اتساع رقعة الحرب في المنطقة تعني تركيا قبل غيرها.
– في العلن إيران هي بين أهداف المناورات البحرية الأميركية – الإسرائيلية الأخيرة في شرق المتوسط. لكنّ تركيا تدرك أنّ حسابات تل أبيب وواشنطن تعنيها مباشرة. ما قاله رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي الأسبق يوسي كوهين من أنّ “قدرات إيران العسكرية قابلة للمواجهة والتفكّك السريع. المقلق هو قوة تركيا الإقليمية”. ولعب ورقة اليونان وقبرص في العامين الأخيرين وتسليحهما المتزايد وإنشاء القواعد العسكرية الأميركية تحمل في طيّاتها رسالة استهداف مباشر لتركيا في شرق المتوسط وإيجه.

لم تقتنع القيادات التركية بما تسوّقه الإدارة الأميركية من مزاعم لتبرير العلاقة بين ما يجري في غزّة وبين قرار البنتاغون تحريك قوات الردّ السريع التابعة لمشاة البحرية الأميركية باتجاه شرق المتوسّط

– التمسّك الأميركي بورقة “قسد” في شرق سوريا بين أهدافه أيضاً تسهيل التمدّد الاستراتيجي الإسرائيلي للمشاركة عبر حليف سوري محلّي في محاصرة تركيا بورقة نهرَي دجلة والفرات أوّلاً والربط بين جغرافيا شرق سوريا وشمال العراق تحت الراية الأميركية ثانياً.
– مسارعة واشنطن وتل أبيب بعد ساعات على عملية الرد الإسرائيلي في قطاع غزّة إلى الحديث عن ولادة شرق أوسط جديد بمعايير وأسس ومعادلات جديدة، وكأنّ هناك خطة أميركية – إسرائيلية مشتركة معدّة تنتظر عمليّة تنفّذها حماس لإعلان ساعة الصفر الإقليمي.
هدف الرسائل التصعيدية التي تطلقها القيادات السياسية التركية بعد فشل جهود إقناع تل أبيب بتغيير سياستها والتوقّف عن هجماتها ضدّ السكّان الفلسطينيين في غزّة هو الضغط على الولايات المتحدة لتراجع سياساتها وطريقة تعاملها مع ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلّة ولتقوم هي بدورها بالضغط على نتانياهو لوقف الحرب، فهل يصل إردوغان إلى ما يريد؟
تظاهر عشرات الأتراك أمام مدخل قاعدة “إنجرليك” التي تقدّم خدمات أطلسية، مطالبين بإغلاق القاعدة أمام القوات الأميركية احتجاجاً على دعم واشنطن لإسرائيل في غزّة. الضغط التركي باتجاه تل أبيب وواشنطن هو سياسي دبلوماسي طالما أنّ أنقرة لا تريد تحريك أوراق أخرى في هذه الآونة. ما يقلق البعض داخل تركيا وخارجها هو ما الذي سيحدث إذا ما واصلت تل أبيب تصعيدها العسكري ضدّ القطاع، وهو أهمّ من موضوع شكل العلاقة بين تركيا وكلتا العاصمتين عند توقّف القتال وإعلان الهدنة؟
بسبب التحوّل المعروف في سياسات تركيا الإقليمية في العامين الأخيرين أراد إردوغان وحكومته أن يكون تحرّكهما في التعامل مع موضوع غزّة مغايراً للمرّات السابقة في أعوام 2010 و2014 و2018. تريد أنقرة اليوم التنسيق مع عواصم عربية فاعلة ومؤثّرة في الملفّ، وتحديداً مع القاهرة، وأن يكون القرار مشتركاً في التعامل مع ما يجري في غزّة وسبل إيقافه. لكنّ إردوغان لم ينتظر كثيراً، فهو غير صبور في مسائل من هذا النوع كما رأينا بعد ظهر السبت المنصرم في ميدان مطار أتاتورك.

رسائل جنبلاط
من الصعب قياس ارتدادات تغريدات وليد جنبلاط الموجّهة لإردوغان بسبب مواقف أنقرة في الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزّة: “إنّه تصريح معتدل جداً.. ما الذي يحدث معك سيدي الرئيس؟”. جنبلاط محقّ في طرح السؤال ربّما، لكنّه بخبرته وحنكته السياسية كان بين أوّل من غرّد لمشاهد مئات الآلاف من الأتراك المشاركين في مهرجان دعم الشعب الفلسطيني الذي أشرف حزب العدالة على تنظيمه في إسطنبول.

عند انفجار الوضع في غزّة كان إردوغان يدعو كلّ الأطراف إلى “ممارسة الاعتدال”: “نريد أن تتوقّف الحرب في المنطقة في أسرع وقت ممكن وأن يتمّ حلّ المشكلات بين الأطراف من خلال المفاوضات، وأن نرى فتح ممرٍّ إنسانيٍّ لإدخال المساعدات إلى قطاع غزّة، وعقد مؤتمر سلامٍ فلسطينيٍ إسرائيليٍ دوليٍ إقليميٍ برعاية دولٍ ضامنة”.
في 25 تشرين الأول المنصرم وأمام كتلته النيابية رفع إردوغان سقف التصعيد والنبرة ضدّ تل أبيب حين قال: “حتى الحروب فيها أخلاقيات لا يمكن تجاوزها، قصف المنازل فوق رؤوس ساكنيها ليس حرباً بل مذابح”، مع التأكيد أنّ حماس ليست تنظيماً إرهابياً بل حركة تحرّر وطني تدافع عن أراضيها. بعد أيام وأمام مئات الآلاف في نهاية الأسبوع المنصرم كان الصوت أعلى بالمقارنة مع الواقعية والبراغماتية التركيّتين حيال إسرائيل: “ترتكبون مجازر حرب وستدفعون ثمن ذلك”.
لم يبدّل الرئيس التركي في مواقفه فجأة، فالجميع يدرك أنّ مهمة إردوغان ستكون صعبة، وهو يحدّد الخطوة المقبلة في الساعات والأيام المقبلة. نبرة التصعيد والمواقف التي أعلنها إردوغان وهو يردّد: “إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزّة”، قابلتها تصريحات المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان يوم الأحد المنصرم وهو يتفقّد منطقة رفح الحدودية التي قال فيها إنّ “المحكمة تحقّق في جرائم محتملة ارتكبتها كلّ من إسرائيل وحركة حماس”. إعاقة دخول إمدادات الإغاثة إلى قطاع غزّة يمكن أن تشكّل جريمة تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب اتفاقيات جنيف. لكن في إشارة إلى الرهائن الذين تحتجزتهم حماس في قطاع غزّة، قال خان إنّ “احتجاز الرهائن يشكّل انتهاكاً خطيراً لاتفاقيات جنيف أيضاً”.

إقرأ أيضاً: الشدّ والجذب التركيّ الإيرانيّ في غزّة؟

الحرص على الأوراق السياسية والإقتصادية
ما تزال قائمةً تقديراتنا قبل أسبوعين بأنّ أنقرة لا تريد أن تفقد أوراقها السياسية والاقتصادية التي تحرّك مواقفها وسياساتها الإقليمية الجديدة والتي تبنّتها قبل عامين بهدف إعادة تصفير المشاكل ورأب الفجوات وتفعيل جسور العلاقات مع اللاعب الإقليمي. لكنّ احتمال التحوّل في المواقف نتيجة المتغيّرات الميدانية والعسكرية ما زال قائماً أيضاً. المزيد من التحوّل والتصعيد في مواقف أنقرة هو الاحتمال الأقرب حتى الآن. لن يكون أمراً مستغرباً إذا ما قرّرت أنقرة الانفتاح أكثر فأكثر على خصوم أميركا ومنافسيها من دول وتكتّلات تتقدّمها مجموعة “البريكس” مثلاً، وإذا ما شعرت أنّ هدف واشنطن هو عزلها وإضعافها دعماً للصعود الإسرائيلي في ملفّات الممرّات التجارية وخطوط الطاقة في الشرق الأوسط.
دفعت عوامل داخلية وخارجية كثيرة حكومة إردوغان إلى مراجعة سياساتها في التعامل مع ملفّات وعلاقات سياسية صعبة في الإقليم. لكنّ إردوغان كما يبدو وكما يُعرف عنه لم يصمد طويلاً أمام البراغماتية التي يطالبه بها البعض، وقرّر سريعاً العودة إلى أسلوبه وثوبه الحزبي والعقائدي والسياسي إذا ما كان الأمر يتطلّب ذلك.
هدف إردوغان الآن مثل العديد من القيادات والعواصم الإقليمية هو منع تل أبيب من مواصلة هجماتها الوحشية ضدّ غزّة. رفضها ذلك وتمسّكها بالتصعيد يعنيان تصعيداً تركياً مقابلاً ضدّ إسرائيل والداعم الأول لها الحليف الأميركي.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…