لماذا اخترق “وزير المالية” خطّ إردوغان الأحمر!

مدة القراءة 7 د


فجّر قرار البنك المركزي التركي رفع سعر الفائدة بمقدار 750 نقطة أساس وإيصالها إلى 25 في المئة بدلاً من 17 ونصف في المئة، نقاشات حادّة بين الخبراء الاقتصاديين والماليين داخل تركيا وخارجها. كانت خطوة غير متوقّعة في رسم معالم السياسة النقدية الجديدة من قبل فريق عمل وزير المالية الجديد محمد شيمشاك، نجم عنها بعض التحسّن في سعر صرف الليرة وتراجع سعر الذهب مقابل ارتفاع في أسهم البورصة.

لكنّ قناعة الكثير من الخبراء الاقتصاديين اليوم هي أنّه إذا كان الهدف من زيادة نسبة الفائدة في البنك المركزي التركي 7 ونصف في المئة ورفع الأرقام خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من 8 ونصف إلى 25 في المئة، هو تحطيم ظهر التضخّم ودفع وحش الغلاء إلى الاستسلام وإنهاء “نظام حماية الليرة” في مواجهة العملات الصعبة الذي كلّف الخزينة مليارات، فهذه الخطوة لن تكفي. لا بدّ من خطوات إضافية مشابهة يقدّمها وزير المالية محمد شيمشاك وفريق عمله الجديد.

القناعة الأخرى هي أنّه لا يمكن لجرعة العلاج الموجعة التي أقرّها البنك المركزي التركي قبل أيام أن تعتمَد من دون معرفة السلطة السياسية وموافقتها. فسبق للعديد من رؤساء البنك أن استقالوا أو أُقيلوا بسبب قرارات أقدموا عليها أو خطوات رفضوا اعتمادها في الأعوام الثلاثة الأخيرة وفي حالات مماثلة.

يدور الحديث عن خطة اقتصادية إنمائية خماسية جديدة ستقدَّم إلى البرلمان خلال دورته المقبلة، وتحمل أكثر من مشروع قانون ذي طابع ماليّ واقتصادي واستثماري

أردوغان يتراجع عن وعوده؟

هل يقطع الحكم الغصن الذي يجلس فوقه بعدما أعلنت قوى المعارضة اليوم أنّ إردوغان تراجع عن مقولته الشهيرة “الفائدة المصرفية هي السبب، والتضخّم هو النتيجة”، على الرغم من تكراره أنّه “ما بقي أخوكم هذا على رأس السلطة السياسية فلن ترتفع أسعار الفائدة بل ستتراجع باستمرار”؟

من أقنع إردوغان بفتح الطريق أمام قرار من هذا النوع يتعارض كلّياً مع مواقفه في مسألة العلاقة بين قيمة الفائدة وأرقام التضخّم ومع ما دافع عنه لسنوات في معركته ضدّ الفائدة المصرفية وخطورتها على اقتصاد تركيا وعملتها؟ لماذا يتراجع عن قناعاته أمام ما يقوله ويريده الوزير شيمشاك؟ هل يواصل حزب العدالة إطلاق يد الأخير الذي غادر قبل سنوات مغبوناً لكنّه يعود معزّزاً مكرّماً؟ لا بل هل يمنحه فرصة أخرى للقيام بما يريد تاركاً حزب العدالة أمام مفترق طرق ماليّ واقتصادي صعب ومعرِّضاً الانتصارات الانتخابية الأخيرة للخطر، خصوصاً أنّ تركيا ذاهبة بعد 7 أشهر إلى انتخابات محلّية جديدة؟

برّر البنك المركزي التركي، في بيان له، أسباب الإقدام على قرار من هذا النوع بأنّه يندرج في إطار مواصلة سياسة التشدّد النقدي لخفض التضخّم ودعم استقرار الأسعار اللذين يُعتبران في طليعة الأولويّات. هناك تحفّظات على الخطوة المفاجئة والصادمة هذه، لكنّ قرار رفع سعر الفائدة المصرفية 7 نقاط ونصف نقطة دفعةً واحدةً أفرح قيادات المعارضة في الداخل، والكثير من المؤسّسات المالية العالمية في الخارج التي بدأت تردّد أنّ تركيا تعود تدريجياً إلى منهج الليبرالية الاقتصادية الكلاسيكية في اتّخاذ القرارات المالية والاقتصادية.

رحّبت قوى المعارضة التركية بهذه الخطوة لأنّها كانت تدعو إلى اعتمادها منذ أشهر بعيدة، لكنّها تطالب شيمشاك ورئيسة البنك المركزي غايا أركان بالمزيد، لأنّ ارتدادات هذا القرار ستكون سلبية على الانفتاح الاقتصادي الأخير والعودة إلى الليبرالية الكلاسيكية وستستهدف أرقام النموّ وترفع بالمجّان أرقام الفائدة المصرفية في القطاع الخاصّ.

لكنّ غالبية الأتراك ترى اليوم أنّ متطلّبات المرحلة والوضع الصعب، الذي تعكسه أرقام الغلاء والتضخّم، هما اللذان فرضا نفسَيْهما على خيار العودة إلى قواعد الاقتصاد الأرثوذكسي المرتبط بتبنّي واعتماد ما هو مقبول بشكل عامّ، وما هو تقليدي، وما هو مناسب، وفتح الطريق أمام قرارات يتّخذها شيمشاك في هذه الظروف الاستثنائية باتّجاه إخراج البلاد من أزماتها.

ربّما يكون تأثير قوى المعارضة مهمّاً على قرار إردوغان وحزبه الإقدام على خطوة من هذا النوع، لكنّ الأرقام ونسب الإستطلاع تقول إنّ المواطن ما يزال يثق بإردوغان وحزبه حتى لو ارتكبوا الأخطاء

يدور الحديث عن خطة اقتصادية إنمائية خماسية جديدة ستقدَّم إلى البرلمان خلال دورته المقبلة، وتحمل أكثر من مشروع قانون ذي طابع ماليّ واقتصادي واستثماري. ويقول مساعد الرئيس التركي جودت يلماز الأكاديمي والاقتصادي الذي يشرف على التحوُّل في السياسات المالية مع شيمشاك، إنّ هدف الحكم اليوم هو خفض رقم التضخّم إلى خانة واحدة على المدى المتوسّط، وإنّ الخطط المعدّة لذلك تتقدّم بهذا الاتجاه.

شيشماك طلب فرصة لأشهر

ربّما تكون متطلّبات مواجهة الوضع المالي والاقتصادي الصعب الذي تمرّ به تركيا، ووصول الخبراء الذين راهن عليهم الرئيس التركي لسنوات إلى طريق مسدود في محاولات إخراج البلاد من أزماتها، هي التي استدعت الإصغاء إلى شيمشاك وما يقول إذا ما كان إردوغان يريد تجنيب البلاد المزيد من المخاطر الاقتصادية المحدقة. إضافة إلى مسألة عدم نجاح الرهان على خطة “وديعة الليرة المحميّة بسعر الصرف الأجنبي”، التي كانت تدبيراً دخل حيّز التنفيذ للمساهمة في منع تراجع القيمة الشرائية للّيرة أمام العملات الصعبة، فحمّل الخزينة أعباء مالية ضخمة في العامين الأخيرين. هذا إلى جانب تعهّدات شيمشاك أن لا تطول الحالة الاستثنائية ومتطلّباتها، وأن تبدأ بإعطاء نتائجها خلال الأشهر المقبلة وقبل التوجّه إلى الحملات الانتخابية في معركة البلدّيات المنتظرة في آذار المقبل.

معرفة من أقنع إردوغان بتبديل مواقفه وقراراته المالية والاقتصادية مسألة تستحقّ المتابعة حتماً. لكنّ البداية ينبغي أن تكون من مكان آخر. فقد نشرت مؤسّسة استطلاعات الرأي التركية “أوبتيمار”، التي كانت توقّعاتها هي الأقرب إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، استطلاع رأي جديداً أجرته قبل أسبوعين على شريحة واسعة تضمّ حوالي 2,500 مواطن تركي، وطرحت فيه سؤالاً مهمّاً: لماذا دعمتم إردوغان وحزب العدالة وتحالف الجمهور في الانتخابات الأخيرة؟

توزّعت نسب الإجابات على الشكل التالي:

– 22 في المئة بسبب نجاحات وإنجازات الحزب؟

– 17 في المئة بسبب مواقفه السياسية.

– 17 في المئة بسبب الثقة بقدرة إردوغان وحزبه على إخراج البلاد من أزماتها.

ربّما يكون تأثير قوى المعارضة مهمّاً على قرار إردوغان وحزبه الإقدام على خطوة من هذا النوع، لكنّ الأرقام ونسب الإستطلاع تقول إنّ المواطن ما يزال يثق بإردوغان وحزبه حتى لو ارتكبوا الأخطاء.

يتوجّه وزير المالية التركي شيمشاك إلى نيويورك في أيلول المقبل للقاء كبار المستثمرين العالميين ومحاولة إقناعهم بالعودة إلى الأسواق التركية. هم يريدون ضمانات وتطمينات قبل ذلك. وحتماً سيكون قرار البنك المركزي التركي الأخير ورقة قوّة بيد شيمشاك.

تسبّب رفع نسبة الفائدة على هذا النحو في البنك المركزي التركي بصدمة في صفوف الكثيرين حتى المطالبين بخطوة من هذا النوع. لم يكن أيّ خبير اقتصادي وماليّ متابع يتوقّع من رئيسة البنك المركزي أن تلوّح بكفّ يدها اليمنى ثمّ تضرب باليسرى. فهل تتواصل سياسة رفع نسب الفائدة المصرفية في أيلول المقبل أيضاً أم تتوقّف غايا أركان عند هذا الحدّ وتكتفي بما حصلت عليه حتى الآن؟

هي تقول إنّها ستواصل ما بدأته مع فريق عملها قبل أسابيع حتى إنجاز المهمّة.

إقرأ أيضاً: متى وكيف سيردّ إردوغان على الأسد؟

لا بد من العودة إلى أرشيف “أساس”. فخطوة البنك المركزي التركي بقيادة الوزير شيمشاك سهّلت لنا الإجابة على سؤالنا المطروح في حزيران المنصرم تحت عنوان “شيمشاك يدير اقتصاد تركيا: سقوط نظرية المؤامرة؟”، والذي كان على النحو التالي: “اعتاد إردوغان أن يحدّد ما يريد وأن يصل إليه عاجلاً أم آجلاً. سيكون قدوم شيمشاك مختلفاً هذه المرّة. فمن الذي سيقنع الآخر بما يقول ويريد؟ وهل يتراجع إردوغان مثلاً عن معادلته الشهيرة القائمة على أنّ خفض أسعار الفائدة يعني خفض معدّلات التضخّم إرضاء لمحمد شيمشاك؟”.

لقد تبيّن أنّ شيمشاك، الذي يمثّل أنصار النظرية الواقعية والانفتاحية، لا يقلّ عنه إردوغان تمسّكاً بالبراغماتية والعملانية اللتين يعود إليهما عند اللزوم ولو متأخرة في بعض الأحيان.

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…