دخل الاقتصاد اللبناني مرحلة موت سريري. المؤشرات كلها توحي بذلك. نشهد انكماشاً اقتصادياً سيتجاوز نسبة الـ12 في المئة، بحسب توقّعات “صندوق النقد الدولي”، وتضخّماً بلغ عتبة الـ27 في المئة، بحسب وزارة المال، ومعدّلات بطالة وفقر تتجاوز الـ50 في المئة، بحسب توقعات “البنك الدولي”. ولم يكن يكفي لبنان أزمته المالية والنقدية والاقتصادية الحادّة لتأتي جائحة كورونا فتفرض علينا واقعاً اجتماعياً جديداً سيفاقم المؤشرات سلبيةً، مع حالة إقفال شبه تام فرضتها التعبئة العامة خوفاً من تفشي الوباء بين المواطنين.
مئات من الدول عزلت نفسها. حركة الاستيراد والتصدير توقفت، لا سيما المواد الغذائية، بعدما وضعت هذه الدول مسألة الأمن الغذائي الذاتي في أولوياتها. فأين لبنان من كل ذلك، سيما وأنّه بلد يعتمد على استيراد حتّى الخضار والفواكه، وهو ما يوّلد عجزاً كبيراً في ميزانه التجاري، والذي بلغ 17 مليار دولار عام 2019.
إقرأ أيضاً: تشريع زراعة “الحشيشة”.. وخوف من “ريجي” جديدة
لكن على مقولة المثل المعروف: رُبّ ضارة نافعة، يبدو أنّ كورونا من جهة، وشحّ الدولار في السوق من جهة أخرى، سيدفعان باتجاه تغيير نموذج اقتصاد لبنان من ريعي إلى منتج قائم على القطاعات المنتجة، أي الصناعة والزراعة، وذلك بحكم الأمر الواقع والحاجة، وليس بقرار سياسي أو اقتصادي. علما أنّ القطاع الزراعي يمثّل نسبة 2 إلى 3 في المئة من الناتج المحلي في حين يمثّل القطاع الصناعي ما نسبته 11 في المئة.
اقتصاد منتج لا ريعي
الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي الدكتور أنيس أبو دياب يشرح لـ”أساس” أنّ أزمة لبنان الاقتصادية “ليست وليدة اليوم، ولم تنتج بسبب كورونا أو ثورة 17 تشرين، إنما هي امتداد لأزمة عميقة ظهرت ملامحها منذ العام 2011، مع تسجيل ما يُسمّى العجز المزدوج، أي تنامي عجز المالية العامّة مع تنامي عجز الحساب الجاري، وبالتالي تراكم العجز في ميزان المدفوعات. وطبعاً ظهر هذا جلياً بداية صيف العام 2019، عندما بدأ الدولار ينضب من السوق، ما أدّى إلى ظهور سعرين للصرف في سوق القطع. وهي ظاهرة لم يشهد لبنان مثيلها منذ العام 1993”.
ولأنّ الأزمة بدأت تتعمّق وتتوسع لتصل إلى القطاع المصرفي الذي لطالما اعتبر دُرّة القطاعات الاقتصادية ليس في لبنان فقط، إنّما في المنطقة كلها، بدأت الثقة بالاقتصاد اللبناني تتدهور بشكل عام، لأسباب سياسية، وأخرى لها علاقة بالاقتصاد الريعي.
فالتحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج قائم على قطاعي الصناعة والزراعة، يحتلّ المساحة الأساسية من النقاش اليوم. ولأنّ ما بعد 17 تشرين ليس كما قبله، خصوصاً بسبب أداء القطاع المصرفي وفرض قيود غير مقوننة على حركة الأموال، وما رافقها من تقييد لحركة تحويل الأموال إلى الخارج من أجل استيراد مواد أولية أو حتى سلع، فإنّ عدداً كبيراً من المواطنين بدأوا بالتوجّه التدريجي، ولو بشكل خجول، إلى زراعة الأراضي التي يملكونها، في الأرياف.
كانت تلك مبادرات، بعضها رعته الأحزاب، مثل حزب الله وحركة “أمل” في الجنوب والبقاع، و”القوات اللبنانية” في الأرياف التي تنشط فيها، و”الحزب التقدمي الإشتراكي” في الجبل، وذلك من خلال البلديات والجمعيات وحتّى الأطر الحزبية. أي أنّها “ارتجالية” لا تدخل في دائرة تنعكس بفاعلية على الاقتصاد وعلى الناتج المحلي، وينقصها بنية تحتية مؤاتية لها تسمح بتفعيل وتحفيز وزيادة المساحات المزروعة، بنسبة تزيد من مساهمتها في دعم الناتج القومي من جهة، وتعزّز الأمن الغذائي من جهة أخرى.
يعتبر أبو دياب أن تطوير القطاع الزراعي هو حاجة أساسية بعد كورونا “لنعزّز الأمن الغذائي في البلاد. ولبنان لديه هذه المؤهلات على أساس طبيعة الأرض والمناخ، وتوافر المياه”. لكنّه يدعو إلى “التفكير في زراعات تستخدم في صناعة الأدوية، إن لتخفيف فاتورة استيراد الدواء، أو لتمكين لبنان أكثر من تصدير الدواء”. ويعطي أمثله “الزراعات الجردية كالبابونج، واللفاندر”. ولا ينسى زراعة القنّب، أي نبتة الحشيشة التي أقرّ قانونها مجلس النواب قبل يومين، ويقدّر مردودها الأوّلي بأكثر من مليار دولار سنوياً، فضلاً عن السماح لمزارعي هذه النبتة لاحقاً الاستفادة من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
ويلفت أبو دياب إلى أنّ القطاع الزراعي، سواء كان زراعة حيوانية (كاستحداث البرك وزراعة برك الأسماك، على سبيل المثال لا الحصر)، أو زراعة بعلية أو مروية، أساسي في اقتصادات الدول المتطوّرة، لأنّه يؤمّن الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، من جهة، وهو مصدر أساسي لإيجاد فرص عمل من جهة أخرى.
زراعة الحشيش
رئيس الجمعية التعاونية الزراعية وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أيضاً، جورج الفخري، يروي لـ”أساس” رحلة المعاناة مع الدولة تجاه زراعة الحشيش التي تختلف عن زراعة الأفيون (يستخرج منها مخدرات مميتة كالهيروين) “ناشدنا وزارة الزراعة كثيراً من أجل اعتبار الحشيش في مستوى شتلة التبغ لما لها من ضرورة في الأمور الطبية”، موضحاً أنّه كي يستفيد المزارع يجب أن يزرع قرابة العشرين هكتاراً، أي ما يوازي 200 دونماً، ليؤمن لقمة العيش له ولعائلته. ويضيف: “ليس كلّ سهل البقاع يمكن أن يزرع بالقنّب، فقط في منطقة بعلبك الهرمل، لا سيما سهل قيعات، دير الأحمر، مجدلون، اليمونة، حوش تل صفية، حوش بردى، بوداي والسعيدة، الكنيسة وجزء من الهرمل، لأنّ طبيعة الارض والشمس تعطي نوعية ممتازة من الحشيش تتهافت عليها الدول، لا سيما مصر. وعلى الدولة أن تقوم بتشريع من يصدّر هذه النبتة إلى الخارج، لأنها تؤمّن العملة الصعبة، علما أنه يجب تصريف الحشيش في مهلة أقصاها عاماً واحداً، وإلا تصبح بلا قيمة”.
الصناعة ستنهض أيضاً
ربما كان لبنان يسير على خطى التحوّل إلى اقتصاد منتج، بدل الاقتصاد الريعي، لكنّ جائحة كورونا وتزامنها مع أسوأ أزمة مالية في تاريخ لبنان، دفعت هذا التحوّل خطوات سريعة جداً إلى الأمام.
الدكتور أبو دياب يشرح أنّ “المصرف المركزي أنشأ منصة لإيجاد خطّ ائتماني مركزها أوروبا، يساهم فيها مجموعة مستثمرين من الخارج، مغتربين لبنانيين أو حتّى أجانب، وقد تشكّلت هيئة لها. وكان يفترض أن تبدأ في نيسان عملها، لكنّ كورونا أخّر انطلاقتها. ويمكن أن تشكّل هذه المنصة خطوة أساسية لتمويل خطوط الائتمان من أجل استيراد مواد أوّلية”، وذلك من أجل تطوير القطاع الصناعي، وتخفيف الاستيراد.
تعزيز هذا القطاع بالتأكيد سيساهم في حلّ جزء كبير من مشكلة البطالة: “فكلّ 50 ألف دولار تستثمر في القطاع الصناعي، تنتج وظيفة، وكلّ وظيفة في هذا القطاع تنتج 2.2 فرصة عمل في القطاع الخدماتي”
يرى أبو دياب أنّ صعوبة الاستيراد في الفترة المقبلة ستدفع تلقائياً إلى تنشيط القطاع الصناعي وتوجّه رؤوس الأموال إلى الاستثمار في الصناعة، طمعاً في تلبية الطلب المحلي. لذا يدعو وزارة الصناعة والمعنيين أن “يبنوا خطة متكاملة لاستمرارية القطاع الذي هو بحاجة لحماية أيضاً من خلال وضع رسوم جمركية عالية بصورة مؤقتة على السلع التي يمكن أن تنتج في لبنان، أو ما يعرف بالصناعات الاستبدالية، على أن تتميّز هذه الصناعة بجودة عالية تضاهي التي كانت تستورد، وبقدرة تنافسية عالية”.
تعزيز هذا القطاع بالتأكيد سيساهم في حلّ جزء كبير من مشكلة البطالة: “فكلّ 50 ألف دولار تستثمر في القطاع الصناعي، تنتج وظيفة، وكلّ وظيفة في هذا القطاع تنتج 2.2 فرصة عمل في القطاع الخدماتي”.
إذاً ما نحتاج إليه اليوم، بحسب أبو دياب “هو تعزيز دور القطاع الصناعي، بالتزامن مع النهوض في القطاع الزراعي، لتأمين ديمومة العمل فيهما، ليس للاكتفاء الذاتي فحسب، إنّما لبناء اقتصاد منتج وتنافسي من شأنه أن يعيد لبنان إلى الخارطة الاقتصادية العالمية. ولبنان ليس بحاجة إلى خطط، فهو يملك الكثير. هو بحاجة فقط إلى اطلاق عملية جدّية للتنفيذ، لتجنّب استنزاف الوقت وهدر المزيد منه، وما تبقّى من اقتصاد”.