قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كلمته. لكن إسرائيل لم تدعه يمشي بعدما اتهمها بانتهاك القانون الإنساني الدولي في غزة. اختصر معاناة الفلسطينيين وغضبهم بكلمة واحدة عندما قال ان عملية “طوفان الأقصى” لم تحصل من فراغ” بعدما “خضع الشعب الفلسطيني مدى 56 عاماً للاحتلال الخانق”، وان الفلسطينيين يرون ارضهم تلتهمها المستوطنات ويعانون من العنف والخنق الاقتصادي.
كلام الأمين العام نزل وبالا على رؤوس الإسرائيليين الذين توعدوه بالويل والثبور لأنه جرؤ على النطق بحقيقة الاحتلال وما يفعله في الأراضي الفلسطينية. حاول تلطيف كلمته بالقول إنها “حُرِّفَت” . لكنهم طالبوه بالاستقالة فورا وبدأوا في اعداد العدة لاقالته بعد اذلال.
حظ سلفه النمساوي كورت فالدهايم لم يكن افضل مع اإاسرائيليين، بسبب إصراره على حلّ الدولتين كسبيل وحيد لحل القضية الفلسطينية. هذا الموقف اطاح طموحه لتجديد ولايته. عاجَلَهُ “فيتو” أميركي، بطلب من إسرائيل، التي لم توقف حملتها ضده بعد انتخابه مستشارا للنمسا. اتهمته بأنه نازي هارب من العقاب. ذنبه الوحيد نظرته المغايرة لقضية الفلسطينيين وان ألمانيا ضمّت النمسا وألزمته مع اترابه بالخدمة العسكرية الاجبارية.
قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كلمته. لكن إسرائيل لم تدعه يمشي بعدما اتهمها بانتهاك القانون الإنساني الدولي في غزة
اغتيالات إسرائيليّة لمبعوثين أمميّين
حكاية الحقد الإسرائيلي على المنظمة الدولية قديمة قدم وجودها. لم تحتمل العصابات الصهيونية اقتراحات السلام التي تقدم بها وسيط الأمم المتحدة بين العرب واليهود الكونت الاسوجي فولك برنادوت، وتضمنت اقتراحاً بوضع حد للهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبقاء القدس تحت السيادة العربية. فقتلته منظمة “شتيرن” في القدس في أيلول من عام 1948، فاتحة بذلك سجلّاً حافلاً بالاغتيالات طاول آلاف القادة الفلسطينيين والمثقفين.
هذه هي حال المحتلين مع المسؤولين الامميين “المزعجين” الذين يذكّرونهم بانتهاكاتهم. الإحتلال الفرنسي للجزائر ضاق ذرعا بالأمين العام السابق الاسوجي أيضاً داغ همرشولد عام 1961، فقُتل بتحطم طائرته في افريقيا، في حادث بقي غامضا حتى ازاح الصحافي الفرنسي مورين بيكار الستار عنه العام الماضي. كشف بيكار ان “منظمة الجيش السري” الفرنسية المعارضة لاستقلال الجزائر حكمت بالإعدام عليه “لوضع حد لتدخله الضار لانهاء الاستعمار”. وأظهر وثيقة مصنّفة “سرية للغاية” هي صورة من رسالة، في ملفات السكرتير السابق للشؤون الإفريقية في الإليزيه جاك فوكار، المحفوظة في الأرشيف الوطني الفرنسي، تثبت الحكم.
هكذا تنتظر أيام وليال صعبة غوتيريش الذي ارتكب في نظر الإسرائيليين جريمة لا تغتفر بحقهم في أحلك الظروف التي يمرون بها منذ نشوء كيانهم، لا سيما أن لجانا ومنظمات دولية عدة بدأت إعداد العدة لفتح ملفات حقوق الانسان والجرائم اللاانسانية التي بدأت تتراكم فوق رؤوس الجميع.
سيرة غوتيريش الطويلة
الامين العام الحالي الاتي الى المنظمة الدولية من رئاسة الحكومة البرتغالية، وقبل ذلك من زعامة “الاشتراكية الدولية”، ليس يهوديا. وهكذا تصير جريمته مضاعفة. ذلك ان يهودية ريشارد غولدستون وصهيونيته لم تشفعا له عندما خلصت بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق التي رأسها بعد احدى الحروب السابقة على غزة الى ان إسرائيل ارتكبت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي أثناء عملياتها العسكرية في قطاع غزة، من يوم 27 كانون الأول 2008 إلى 18 كانون الثاني 2009، وانها ارتكبت أعمالاً تصل إلى مستوى جرائم الحرب، وربما جرائم ضد الإنسانية.
ساوت البعثة الفصائل الفلسطينية المسلحة بالجيش الاسرائيلي واتهمتهم ايضا بارتكاب جرائم حرب. مع ذلك لم ترضَ عليه اسرائيل. ارغمته على الاعتذار والتراجع عن التقرير وابداء الاسف علنا. لم ترضَ ايضا، ولم ينجُ القاضي الكبير الافريقي الجنوبي، الحائز جائزة حقوق الانسان الدولية من نقابة المحامين الاميركية، من التشهير والتحقير والنبذ ليس فقط من إسرائيل بل أيضا من كل الجاليات اليهودية في العالم. وبلغ الامر ان الجالية اليهودية في جنوب افريقيا منعته من حضور حفل بلوغ حفيده، وامتثل هو وابناؤه للمنع.
الاستماتة الأميركية في الدفاع عن إسرائيل والتغطية على ارتكاباتها أمر مفهوم وأكده الرئيس جو بايدن عندما قال انه “لو لم تكن هناك اسرائيل لوجب اقامتها”
العدالة والتنديد بالجرائم كلمتان ترعبان اسرائيل لأنهما تكشفان وجهها الحقيقي كجلاد وليس كضحية كما تريد تحب ان تصف نفسها. اميركا تقف في صفها بلا سؤال واوروبا ازالت مساحيق التجميل عن وجهها وسارت في الركب نفسه.
الذريعة الأميركية للتدخل كانت دائما ان اجراءات العدالة وتحديد المسؤولية من شأنها ان تعطل عملية السلام، وكأن هذه العملية كانت تسير على ما يرام وتعطي للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم، وتناست واشنطن ان اصرار المحتل على اعتماد القبضة الحديدية والحل الامني هما الوصفة الممتازة لتغذية جذوة التطرف واستحضار المتطرفين.
فرنسا – ماكرون: لماذا دعشنة المقاومة؟
الاستماتة الأميركية في الدفاع عن إسرائيل والتغطية على ارتكاباتها أمر مفهوم وأكده الرئيس جو بايدن عندما قال انه “لو لم تكن هناك اسرائيل لوجب اقامتها”. وتولى هو وأركانه مهمة انقاذ هذا الكيان من نكبته الأخيرة. لكن غير المفهوم هو الجهد الاستثنائي الذي يبذله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من اجل الربط ما بين تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الإرهابي الذي نشأ في ظروف ملتبسة وفي سياقات غير طبيعية، وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” الآتية من جذور فلسطينية معروفة ووصلت إلى السلطة في غزة عبر صناديق اقتراع، ولو أنها تمثل بخياراتها السياسية جزءاً من الفلسطينيين وليس كلهم.
ليس هذا الربط فقط لتأمين حشد دولي وتوسيع التحالف الدولي القائم ضد “داعش” وضم إسرائيل رسمياً إليه، بل لإيجاد غطاء شرعي دولي للجرائم التي تُرتكب ضد أهالي غزة وما قد يرتكب في الأيام المقبلة من عمليات تهجير واسعة، الأمر الذي سيعفيها لاحقاً من المسؤولية القانونية والأخلاقية والمساءلة بذريعة أنها تخوض حربا ضد الإرهاب بتوافق عالمي.
إقرأ أيضاً: ماكرون في إسرائيل: لتحالف إقليميّ – دوليّ ضد حماس
هكذا يصير الضحايا المدنيون واللاجئون الغزيون أضراراً جانبية في “حرب نظيفة ضد أعداء الإنسانية” مثلهم مثل الضحايا الأبرياء في الموصل والأنبار وأجزاء واسعة من سوريا الذين دخلوا في حيز النسيان والتجهيل وصار الاقتراب من ذكرهم جريمة لا تغتفر.
قد يكرر غوتيريش ما فعله زميله السابق غولدستون ويتراجع عن أقواله أو يلحسها تحت الضغط الإسرائيلي الهائل والإعلام الصهيوني. لكن تقرير لجنة تقصي الحقائق بقي وثيقة دولية ثابتة ومرجعا موثوقا يدين الارتكابات الإسرائيلية في القطاع. كذلك ستبقى كلمة الأمين العام الحقيقة الدامغة التي تخشاها إسرائيل، وهي أن “الغضب الفلسطيني لم يأت من فراغ بل جاء من إحتلال خانق طوال 56 عاماً”.