كثيرة هي المحطات والإشارات التي يمكن التوقّف عندها في القمّة العربية – الإسلامية المشتركة في الرياض، إن من حيث الشكل أو المضمون. لكنّ الأكيد أنّ 11 تشرين الثاني 2023 هو يوم سيدخل التاريخ، بأحداثه ومحطّاته، من القمّة المشتركة في المملكة العربية السعودية، إلى نهار طويل من الاعتداءات الإسرائيلية في غزّة واستهداف المستشفيات والمطالبة بإخلائها، وصولاً إلى امتداد الحدود مع لبنان، حيث توسّع القصف الإسرائيلي ليلامس الشاطىء اللبناني في منطقة الزهراني، للمرّة الأولى. وهو خروج جديد عن قواعد الاشتباك المتّفق عليها بين لبنان وإسرائيل سبق الإطلالة الثانية للأمين العامّ للحزب.
في سياق تأسيسي يُحتسب لوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أنّه جمع 57 دولة عربية وإسلامية في عاصمة بلاده، دامجاً القمّة العربية (22 دولة) مع 35 دولة إسلامية، أبرزها تركيا وإيران. واستقبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعد سنوات من الجفاء، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بعد 8 أشهر من المصالحة التاريخية بين البلدين في الصين.
جمعت فلسطين المتباعدين والمتخاصمين. جمعتهم الرياض على فلسطين وحولها ودفاعاً عنها. وبدا واضحاً أنّ “العالمَين” العربي والإسلامي وضعا قضية فلسطين على رأس أولوياتهما، متجاوزين كلّ خلاف أو تباعد، على وقع المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحقّ المدنيين الفلسطينيين.
لقد استعاد بن سلمان مفردات واضحة من لهجة عمّه الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز، في كلمته الحازمة أمام قمّة الرياض الاستثنائية، إذ اعتبر “أنّنا أمام كارثة إنسانية تشهد على فشل مجلس الأمن والمجتمع الدولي في وضع حدّ للانتهاكات الإسرائيلية لتبرهن على ازدواجية المعايير”، محمّلاً “سلطات الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية الانتهاكات ضدّ المدنيين بغزّة”.
جمعت فلسطين المتباعدين والمتخاصمين. جمعتهم الرياض على فلسطين وحولها ودفاعاً عنها. وبدا واضحاً أنّ “العالمَين” العربي والإسلامي وضعا قضية فلسطين على رأس أولوياتهما
على وقع همجية الاعتداءات الإسرائيلية على غزّة كانت تتوالى كلمات رؤساء الدول العربية والإسلامية: عبارات شجب واستنكار ومطالبة بمحاسبة إسرائيل وإعلان دولة فلسطينية ودعم المقاومة في سبيل تحرير الأرض.
كانت المملكة أمس قبلة العالم ومحطّ أنظاره، وقد استضافت رؤساء الدول العربية والإسلامية. وكان ليل الجمعة – السبت شاهداً على مداولات ومباحثات حثيثة بدأت ليل الجمعة ولامست فجر السبت، وانتهت مع ساعات الصباح الأولى إلى الاتفاق على توحيد القمّتين العربية والإسلامية وعدم الاكتفاء بعبارات الشجب والاستنكار، بل المطالبة بمحاسبة إسرائيل على جرائم حربها.
كشفت مصادر دبلوماسية لـ”أساس” أنّ دمج القمّتين “رفع لهجة البيان الختامي ودعا إلى محاكمة جنائية لإسرائيل على جرائمها بحقّ الفلسطينيين، واعترض على ازدواجية المعايير الدولية في التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على غزّة”، وأنّ البيان “يكتسب قوّته من كونه بياناً باسم العرب والمسلمين جميعاً”.
بالطبع شهدت المداولات خلافات عربية – عربية حول بعض العبارات التي طالب البعض بأن تكون مرنة وغير مستفزّة، فيما أصرّت دول أخرى على أن يتضمّن البيان إدانة واضحة لإسرائيل ومطالبة بمحاسبتها على جرائمها وأن يحمل توصيفاً دقيقاً لما يجري بلا مواربة.
إيران والحزب: هدوء… و”مراكمة”
إلى “سيّدي الرئيس” توجّه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي شاكراً وليّ العهد السعودي على استضافته، وطالب “بقرارات مصيرية” ردّاً على جرائم إسرائيل في غزّة، وبـ”محاكمة إسرائيل على جرائمها”. واتّهم أميركا بسبب دعمها إسرائيل، داعياً الدول الإسلامية إلى “تسليح الشعب الفلسطيني لمواجهة الكيان الصهيوني” لأنّ “الحلّ هو في المقاومة وإقامة دولة فلسطينية”.
هذا التناغم بين بن سلمان ورئيسي يختصر كلّ شيء. وكم أنّ فلسطين يمكن أن تصنع المستحيل، وأن تجمع الجميع حول حقّها في المقاومة والتسلّح وحول مظلوميّتها التي قاربت 100 عام على مرأى من العالم.
لكنّ اللافت أنّ البيان خلا من كلمة “مقاومة”، ودعا المحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. وتحفّظت تونس عن “كلّ ما ورد في البيان باستثناء فكّ الحصار ووقف العدوان وإدخال المساعدات”، وتحفّظ العراق عن استعمال “حلّ الدولتين” لأنّه “يتعارض مع القانون العراقي”، وعن عبارة “قتل المدنيين” لأنّها “تساوي بين الشهيد الفلسطيني والمستوطن الإسرائيلي”، وعن عبارة “إقامة علاقات طبيعية” مع إسرائيل.
القمّة التي عادت إلى المبادرة العربية للسلام، والتي دعت إلى تطبيق القرارات الدولية، وإلى محاكمة إسرائيل وإلى “حلّ الدولتين”، لم تعطِ المقاومة في لبنان أيّ شرعية
من الرياض إلى حارة حريك
أنهى رئيسي كلامه في السعودية واستكمله الأمين العامّ للحزب الذي كان يحيي “يوم شهيد الحزب”، فكرّس الهدوء الذي ميّز خطابه الأوّل، والسياسة نفسها التي أعلنها الحزب منذ الثامن من تشرين الأول، أي مواصلة حرب استنزاف ضمن حدود “مراكمة عناصر القوة”، و”الردّ المتناسب لكن المتدرّج من اليمن إلى العراق”، لتكون جبهة لبنان هي الأخيرة في سياق كلمته.
زاد الغموض غموضاً حول التطوّرات المتوقّعة بقوله إنّ الكلام في لبنان “يبقى للميدان”، داعياً العيون إلى أن تبقى مثبتة هناك وليس على ما يقوله هو.
بلهجة المهادِن توجّه إلى الرؤساء والزعماء في القمّة العربية – الإسلامية بالقول إنّ التنديد والاستنكار والضغط “يجب أن يوجَّه إلى الأميركيين”، وإنّ “الشعب الفلسطيني يتطلّع إلى هذه القمّة، وهم لا يطلبون من هذه القمّة إرسال الجيوش بل بالحدّ الأدنى أن يطالبوا الأميركي بوقف هذه الحرب”.
من العراق إلى حدود لبنان
إذ أشاد الأمين العام بالعمليات ضدّ المواقع الأميركية في عدد من الدول، كشف أنّ “المقاومة في العراق ولبنان تلقّت تهديدات كثيرة عبر وسطاء”، وقال إنّ “السفيرة الأميركية التي نفت تهديد الحزب هي إمّا كاذبة أو جاهلة”، محذّراً أميركا بالقول: “إذا أردتم وقف العمليات وأن لا تذهب المنطقة إلى حرب إقليمية فعليكم أن توقفوا الحرب في غزّة”، متحدّثاً مرّة جديدة باسم إيران التي “لا تقرّر نيابة عن حركات المقاومة”.
على صعيد الجبهة اللبنانية تجنّب تكرار ما ورد في خطابه الأخير، لكنّه أشار إلى “ارتقاء في مستوى العمليات كمّاً وعدداً ونوعاً”، وإلى أنّه “للمرّة الأولى في تاريخ المقاومة تُستخدم المسيّرات الانقضاضية وصواريخ البركان، وهي عبارة عن نصف طن من المتفجّرات يقع على رؤوس الجنود الموجودين في المواقع، وصولاً إلى استخدام الكاتيوشا”.
هل شرّعت القمّة المقاومة؟
القمّة التي عادت إلى المبادرة العربية للسلام، والتي دعت إلى تطبيق القرارات الدولية، وإلى محاكمة إسرائيل وإلى “حلّ الدولتين”، لم تعطِ المقاومة في لبنان أيّ شرعية، لكنّ كلمات المتحدّثين، وأبرزهم رئيسي، من الرياض، كان لها وقع “الدعم” في حارة حريك. ومشاركة إيران وانعكاس حضورها على “دوزنة الخطاب” أظهرا أنّها تريد، على إيقاع الدبلوماسية، ألّا تفصل نفسها عن سياق العالم الإسلامي والعربي.
إقرأ أيضاً: قمّة الرياض بين المنطق واللامنطق
لهذا جاءت إطلالة الأمين العام للحزب “مدوزنة” على إيقاع سعودي، بما يظهر وكأنّ هناك من يحوك سجّادة المنطقة بهدوء وتروٍّ، خصوصاً أنّ إيران كانت توقّع بياناً “عربياً” و”إسلامياً”.
لم يعد عامل الوقت في مصلحة إسرائيل، بل في مصلحة الدم الغزّيّ، ولم يعد الشيك الغربي مفتوحاً “على بياض”، ولذلك سترسم الإبادة الغزّيّة على ما يبدو ملامح المرحلة المقبلة في المنطقة، إن لم تُعِد رسم حدود السياسة الخارجية الدولية، وتحديداً الأميركية، تجاه القضية الفلسطينية، بينما تستعدّ إسرائيل لمحاكمة قيادتَيها السياسية والعسكرية في الداخل والخارج، بانتظار نقل بعض الوجوه من صدارة التاريخ إلى تحت أقواس المحاكم.