تنقل الأدبيّات الصينية عن أحد الحكماء الاختصاصيين في علم الاستراتيجيا العسكرية في القرن السابع قبل الميلاد ويُدعى “صن تزو” قوله إنّ “من يعرف نفسه ويعرف الآخرين سوف ينتصر في كلّ المعارك! ومن لا يعرف شيئاً سوف يُهزم في كلّ المعارك”.
عاشت الصين هذه التجربة في القرن التاسع عشر عندما خسرت حربين ضدّ بريطانيا. وذلك على الرغم من أنّ الدخل القومي في الصين في ذلك الوقت كان يزيد ضعفين على حجم الدخل القومي البريطاني. إلا أنّ القوة التي جعلت من بريطانيا هي العليا كانت الأفيون (المستورَد من الهند). كانت بريطانيا تعرف نتائج انتشاره في المجتمع الصيني (ولو بالفرض)، وهو ما قلّلت الصين في ذلك الوقت من أهميّته، فكانت النتائج كارثية.
تعلّم الرئيس الصيني “تشي جينبينغ” من ذلك الدرس. وهو في الأساس ابن التاريخ الصيني الذي يحاول إعادة فرض تعليمه مع التعاليم الكونفوشية.
يعرف الرئيس أنّ قوّة بلاده النووية سوف تزيد أربعة أضعاف في عام 2035 على ما هي عليه الآن. ولكنّه يعرف أيضاً أنّ الولايات المتحدة لن تعطيه فرصة الانتظار حتى ذلك الوقت.
يعرف أيضاً أنّه إذا تعجّل في قلب موازين القوى الحالية، فإنّ النتائج ستكون كارثية في ضوء موازين القوى القائمة حالياً.
يعرف الرئيس أنّ قوّة بلاده النووية سوف تزيد أربعة أضعاف في عام 2035 على ما هي عليه الآن. ولكنّه يعرف أيضاً أنّ الولايات المتحدة لن تعطيه فرصة الانتظار حتى ذلك الوقت
الصبر الصيني على تايوان
كانت آخر حرب دخلتها الصين هي الحرب الفيتنامية. وكان تدخّلها العسكري غير مباشر واقتصر على دعم قوات الفيتكونغ. ومنذ عام 1979 لم تتورّط الصين في أيّ حرب أو صراع عسكري مباشر، لا مع روسيا ولا مع اليابان، ولا حتى مع تايوان. إلّا أنّ الرئيس الصيني أعلن أكثر من مرّة أنّه لن يصبر على استمرار “تمرّد” تايوان على الوطن الأمّ إلى ما بعد عام 2027.
من هنا التخوّف من أن تبادر الولايات المتحدة مع حلفائها إلى قطع الطريق على الصين حتى لا تتكرّر مأساة أوكرانيا مع روسيا، في تايوان.
يتمحور حتى اليوم الصراع بين الصين والولايات المتحدة حول الاقتصاد. ولم ينتقل إلى الجبهة العسكرية. وتتوقّع واشنطن أن يصبح الاقتصاد الصيني الأوّل في العالم في عام 2029 إذا استمرّت الأوضاع على ما هي عليه الآن. ومن هنا السؤال: هل تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي حتى ذلك الوقت؟ تجيب على هذا السؤال إجراءات الحظر المشدّدة التي تفرضها الولايات المتحدة على صادرات الأجهزة الإلكترونية المتقدّمة إلى الصين، بما فيها بل وخاصة تلك التي تنتجها تايوان.
هناك اعتقاد بأنّ التقدّم التقني في الصين تجاوز المضاعفات السلبية المحتملة لهذا الحظر. إلا أنّ هناك اعتقاداً معاكساً بأنّ الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بمعلومات عن الميكرو – إلكترونيات، وأنّها تحجبها عن حلفائها أنفسهم في أوروبا من دول حلف شمال الأطلسي، وعن حليفَيها في الشرق الأقصى اليابان وكوريا الجنوبية.
لقد تحوّلت العلاقات الأميركية – الصينية من حالة الثقة المتبادلة إلى حالة الشكّ المتبادَل. تجسّد ذلك في قضية المناطيد الهوائية التي أطلقتها الصين لتتبّع الأحوال الجوّية والتي أسقطتها الولايات المتحدة اعتقاداً منها أنّها مناطيد للتصوير التجسّسي.
الصين من الباب العريض
لم تكن الصين بحاجة إلى هذه الصور عندما أطلقت مبادرتها السياسية في أوكرانيا. ولم تكن بحاجة إليها أيضاً عندما أطلقت مبادرتها السياسية الناجحة بين المملكة العربية السعودية وإيران. لقد دخلت الصين بهذه المبادرة منطقة الشرق الأوسط من الباب العريض. وهو أمر يزعج الدبلوماسية الأميركية ويشكّل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة على المدى البعيد. وإذا نجحت الصين في تحقيق تسوية مماثلة بين روسيا وأوكرانيا، فإنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين (الذين تكبّدوا مئات المليارات من الدولارات لدعم أوكرانيا على حساب مصالحهم الاقتصادية) سوف يصابون بخيبة أمل كبيرة. ولذلك من المستبعد أن تمكِّن واشنطن غريمتها بكين من تحقيق الانتصار الدبلوماسي الثاني.
حاولت الدبلوماسية الأميركية أن تقدّم للصين درساً من أوكرانيا يردعها عن ارتكاب حماقة في تايوان كتلك التي فعلها الرئيس بوتين في أوكرانيا. وحاولت الدبلوماسية الصينية أن تقدّم للولايات المتحدة من أوكرانيا أيضاً درساً مفاده أنّ الحلّ في تايوان يمكن أن يكون حلّاً سياسياً أيضاً إذا نجحت مبادرتها بين موسكو وكييف. ونبّهت إلى أنّ تفشيل المبادرة السياسية الصينية في أوكرانيا قد يدفع بكين إلى اعتماد الحلّ الروسيّ في تايوان.
إقرأ أيضاً: تايوان: أخطر مكان على الكرة الأرضيّة
في خطاب وجّهه الرئيس الصيني “تشي” إلى الأمّة، قال: “إنّنا نواجه اليوم وفي المستقبل مخاطر تحدّيات متناقضة، سواء في الداخل أو في الخارج، يجب أن لا نقلّل من أهميّتها”. ويبدو أنّ “تشي” على الرغم من كلّ إنجازاته التي يفتخر بها، يخشى من الوقوع في “مأزق تاسيتوس”، وهذا الأخير هو من المؤرّخين البارزين في العهد الروماني.
لقد نجح الرئيس الصيني في الالتفاف على النفوذ الأميركي التقليدي في الشرق الأوسط. وهو أمر لن تسكت عنه واشنطن طويلاً. وهي لن تسمح له بأن يحقّق نجاحاً مماثلاً في أوكرانيا، على أمل أن يرتدّ تفشيله عليه فيدفعه إلى الوقوع في “فخّ تاسيتوس”.