فتش عن الرئاسة بين رياض وجبران .. وسليمان وسمير

مدة القراءة 5 د


كان المُفترض ألّا يُجدّد في عهد ميشال عون الرئاسي لرياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان.، فالرجل مرشح دائم يُطرَح اسمُه تلقائياً لرئاسة الجمهورية، ويشكّل خطراً محتملاً على مشروع المرشّح جبران باسيل، الذي صرف العهد معظم وقته وجهده ورصيده عليه، بدل تغيير وإصلاح كان ينادي بهما.

عندما جاءت عامّية 17 تشرين جُرفت حظوظ باسيل وسلامة معاً. تنفّس سمير جعجع وسليمان فرنجية الصعداء، لكن لبنان كان بدأ مرحلة الاختناق النهائي.

تُجسّد رئاسة الجمهورية الغاية القصوى لكلّ زعيم ماروني، يخوض معركتها قبل سنين بقواعد أشبه بلعبة كرة القدم: اندفاع، وهجوم، وارتداد، وقطع طريق على مهاجم خصم، وتمريرات… في انتظار لحظة التسجيل.

إقرأ أيضاً: سيرة عائلة وحاكم (2/2): قصر سلامة الأصفر

لم يفعل ميشال عون طوال الزمن الذي سمع الناس باسمه غير سعي دؤوب إلى الرئاسة. دعونا من الشعارات. عندما ربحها استراح كأنّه اليوم السابع بعد الخلق.

صحيح أن بعض مداخلاته وتعليقاته ينمّ عن عدم إدراك لحقيقة الأوضاع، كما عند قوله لأحد الوفود التي زارته في بعبدا قبل أيام من 17 تشرين: إنّ “العهد نجح… ونجح منيح”. ولكن مَن يهزّه. حرسه الجمهوري “حزب الله”، مع الدولة العميقة والدولة الظاهرة والطائفة.

سلامة ليس محميّاً أقلّ: طائفته من جهة، وأصحاب المصارف من جهة، وفوقهم يحميه توازن يحكم لبنان بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. فإذا تعذّر على فريق السلطة الحالي تعيين نائب ثالث له بديل من النائب الحالي محمد بعاصيري بسبب موقف أميركي داعم لبعاصيري، فكيف بتعيين بديل من الحاكم نفسه؟

ثم إنّ سلامة قوي أيضاً بقوته الذاتية. عرف مدى السنوات الـ27 الماضية أن ينسج شبكة علاقات ومصالح سياسية وإعلامية، عابرة للطوائف والمناطق والأحزاب والاصطفافات في شكل يبعث على العجب، وظهرت عند استنفارها في الأيام الماضية أشدّ فاعلية من إعلام أيّ جهة سياسية أخرى في لبنان. السياسيون على أنواعهم سايرهم كثيراً رياض سلامة في التوظيفات والتسهيلات. تحت يده المصرف المركزي و”الميدل إيست” وكازينو لبنان، فضلاً عن المصارف التي لا تردّ له طلباً.

أما جيش الصحافيين والإعلاميين وأصحاب المؤسسات الإعلامية، المؤيّد منها والمروّج لسلامة في لبنان والخارج، فلم يتسنّ له أن يخوض معركة انتخاب رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، نتيجة لموقف “حزب الله” الذي اختصره أمينه العام السيد حسن نصرالله: “تريدون رئيساً؟ اذهبوا إلى مجلس النواب وانتخبوا ميشال عون”.

بعد تجديد ولاية سلامة للمرة الرابعة عام 2017، والذي لم يمرّ بدون اعتراض فاسترضاءٍ لفريق الرئيس عون، اتّبع حاكم المركزي سياسة تجميد الأزمة المالية، بهندسات وتدابير متعدّدة، على غرار تجميده سعر الليرة، في انتظار انتهاء الولاية طبيعياً أو لسبب آخر. كان الاعتبار السائد أنّ طبيعة الأزمة المالية تفترض خبيراً مالياً قادراً على أعلى مستوى في الدولة. ومَن لها غير سلامة و”ضمانة الليرة”، الذي لولاه لكانت طارت الليرة وراحت الودائع؟

وثق اللبنانيون بأسطورية الرجل التي صنعها الإعلام أكثر مما وثقوا بالسياسيين، فأقبلوا على شراء السندات وإيداع أموالهم في المصارف، تغريهم الفوائد العالية. لهذا كانت صدمتهم عظيمة لاحقاً، وذكّرت الانهيارات المتسارعة في أحوال المصارف كبارهم بمآل “بنك إنترا” ويوسف بيدس.

يجد رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية نفسه بطبيعة الحال إلى جانب نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط، مع حفظ الألقاب، في مواجهة مشروع ترئيس باسيل وتغوّله على المؤسسات ولا سيما مصرف لبنان، أكبر مؤسسة للتوظيفات والخدمات المالية والمصرفية

بعد سقوط “بنك إنترا”، أقفلت المصارف أسبوعاً. وعندما فتحت أبوابها، هجم المودعون وشاهدوا كدسات هائلة من العملة موضوعة على الكونتوارات، فأحجم معظمهم عن سحب أموالهم. وفي 1996، تعرض مصرف “بلوم بنك” لهزة أحضر على أثرها شاحنة ملأى بالعملات وأنزل حمولتها أمام الناس وكاميرات الإعلام، فاستعاد الثقة بسهولة. هذه المرة يبدو الوضع أصعب، لكن سلامة فُرضت عليه المواجهة كي لا يتحوّل كبش فداء وحيداً، وهو العارف بمصدر كلّ دولار في جيب كلّ سياسي، ومساره ومكانه، بما يمنحه تفوّقاً، وإن أقفلت درب الرئاسة أمامه بانفجار الأزمة قبل الأوان المناسب.

كان الأباتي شربل قسيس ينفي وجود “مارونية سياسية” – وهو التعبير الذي أطلقه المفكّر منح الصلح – ويقول إنّ هناك “سياسة مارونية”. لربما كانت ثمة سياسة مارونية لحقبة قصيرة مطلع حرب 1975 وما تلاها. والأصحّ أنّ هناك سياسيين موارنة لم يجمعهم سوى السعي إلى الرئاسة. يقدّم أركان “الحلف الثلاثي” مثلاً نموذجياً على هذا الواقع. بعد فوزهم على “النهج” في انتخابات 1968 النيابية، برع كلّ من كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إده في قطع طريق الرئاسة على حليفيه الآخرين، فاضطروا إلى القبول باقتراح “كتلة الوسط” ترئيس سليمان فرنجية، وما لبث أن تفوّق على زعاماتهم رغم انحصار زعامته في الشمال مقارنة بكلٍّ منهم.

اليوم ثمة مشروع جبهة معارضة، لا يزال فكرة، لكن تلزمه مشاركة مسيحية. يجد رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية نفسه بطبيعة الحال إلى جانب نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط، مع حفظ الألقاب، في مواجهة مشروع ترئيس باسيل وتغوّله على المؤسسات ولا سيما مصرف لبنان، أكبر مؤسسة للتوظيفات والخدمات المالية والمصرفية. لكنّ فرنجية كجدّه الراحل زعامة شمالية. أما سمير جعجع، المتصالح مع فرنجية خلافاً لما كان عليه الوضع في مرحلة الفراغ الرئاسي قبل انتخاب عون، فيبدو مصمّماً هذه المرة على تطبيق مقولة “شرط على الحقل ولا خلاف على البيدر”. لن يقبل بأن يرشّح حلفاؤه مرّة أخرى سليمان فرنجية من وراء ظهره كما حصل في 2015، لكأنّه يقول لهم: “أنا مرشّحكم للرئاسة من اليوم، وإلا فسأبقى في منطقة وسطى غائمة وأتعامل مع الجميع على القطعة”.

إلا أنّ هذه الحسابات السياسية، سواء الانتقامية أو الطموحة، هي ترفٌ كبير بالنسبة إلى الناس الذين أدركهم الجوع. الناس الذين يشعرون بأنّهم تعرّضوا لخديعة كبرى وتُركوا لمصيرهم.

مواضيع ذات صلة

إلى الدّكتور طارق متري: حول الحرب والمصالحة والمستقبل

معالي الدكتور طارق متري المحترم، قرأت مقالك الأخير، بعنوان: “ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر”، في موقع “المدن”، بإعجاب تجاه دعوتك للوحدة والمصالحة…

“حزب الله الجديد” بلا عسكر. بلا مقاومة!

أكّد لي مصدر رفيع ينقل مباشرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله: “أنا لا أثق بأيّ اتّفاق مكتوب مهما كانت لديه ضمانات دولية من أيّ قوى…

هل تنأى أوروبا بنفسها عن عقدة محرقة غزّة؟

بعد 412 يوماً من الإمعان في إشعال المحرقة في فلسطين ولبنان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير جيشه المخلوع…

لبنان “صندوق بريد” بين إسرائيل وإيران

ما تسرّب من “المبادرة الأميركية” التي يحملها آموس هوكستين مفاده أنّه لا توجد ثقة بالسلطات السياسية اللبنانية المتعاقبة لتنفيذ القرار 1701. تقول الورقة بإنشاء هيئة…