“يجب تدمير قرطاج”، عبارة شهيرة، جعلها القائد الروماني ماركو بورزيو كاتو، خاتمة ملزمة لكلّ خطاباته في مجلس الشيوخ في روما قبل الحرب البونية الثالثة (149-146 قبل الميلاد).
كانت قرطاج تمثّل كابوساً لروما. كانت نقيضها في كلّ شيء والعائق الرئيس أمام سيطرتها على العالم القديم، لا سيما جنوب البحر المتوسط الغنيّ بالزراعة والموارد والمصنوعات على عكس الشمال الفقير والمعدم. كانت قرطاج مجتمعاً مزدهراً تستمدّ قوّتها من التجارة والتواصل والاستقرار وتعتمد القوة الناعمة نهجاً لفرض وجودها في شمال إفريقيا، على عكس روما التي كانت مجتمعاً عسكرياً مغلقاً تعتمد القوّة المفرطة في سبيل التوسّع وفرض السيطرة.
زار كاتو قرطاج سنة 152 قبل الميلاد، للمشاركة في التحكيم في نزاع بين المدينة البونية الفينيقية وماسينيسا ملك نوميديا. وصُدم بثرواتها وتقدّمها على الرغم من أنّها هُزمت في حربين متتاليتين مع الرومان وفُرض عليها جزية باهظة. لم تكن المدينة تشكّل خطراً لأنّها كانت بلا أسطول بحري ومنزوعة السلاح، لكنّه خاف أن تستيقظ المدينة من كبوتها وتعود أقوى ممّا كانت في عهد قائدها الكبير هنيبعل وتهدّد روما مجدّداً. بعد ذلك صارت عبارة “يجب تدمير قرطاج” جملته الشهيرة التي ما انفكّ يردّدها كلّ يوم. مات ولم يرَ الجنود الرومان يجتاحون بعد سنوات قليلة قرطاج ويدمّرونها دماراً شاملاً لأنّها كانتّ السد الذي يحول دون قيام الإمبراطورية الرومانية الكبرى التي حكمت العالم عقوداً طويلة.
“يجب تدمير قرطاج”، عبارة شهيرة، جعلها القائد الروماني ماركو بورزيو كاتو، خاتمة ملزمة لكلّ خطاباته في مجلس الشيوخ في روما قبل الحرب البونية الثالثة (149-146 قبل الميلاد)
من هولندا… إلى غزّة
مات القائد الروماني، لكنّ عبارته دخلت قاموس المفردات السياسية وصارت مرادفاً لأفعال الإصرار على الدمار الشامل وإلغاء الآخر:
– عام 1673 أعاد الوزير الإنكليزي أنتوني أشلي كوبر إحياء العبارة في خطاب ألقاه أمام مجلس العموم أثناء الحرب الإنكليزية الهولندية الثالثة، حيث قارن إنكلترا بروما والجمهورية الهولندية بقرطاج.
– في تسعينيات القرن التاسع عشر، نشرت “ساترداي ريفيو” اللندنية مقالات عن المشاعر المعادية لبرلين تحت عنوان “يجب تدمير ألمانيا”.
– وفي الحرب العالمية الثانية كانت إذاعة باريس الموالية للاحتلال النازي تردّد في مطلع نشراتها شعار “إنكلترا مثل قرطاج يجب أن تدمّر”.
– كانت النتيجة معاكسة، ألمانيا النازية هي التي دُمّرت في النهاية.
– واليوم ها هم رموز دولة إسرائيل الصهاينة، الذين سرقوا الأرض الفلسطينية وخطفوا أرواح أبنائها ونهبوا التراث والتاريخ والثقافة، لم يوفّروا، في لصوصيّتهم، عبارة كاتو، فاقتنصوها وغيّروا فيها وصارت جملة: “يجب تدمير غزة”، لازمة في لغتهم وحواراتهم وخطبهم وعناوين صحفهم.
غزة هي كالشوكة في الحلق الإسرائيلي، إخراجها أو ابتلاعها شرّان متعذّران، وأمّا بقاؤها فمؤلم ألماً مبرحاً. عند كلّ منعطف يعلو الصراخ الإسرائيلي بضرورة التخلّص منها، ثمّ ما تلبث أن تعود إلى موقعها العميق في اللاوعي الإسرائيلي، ويعود المسؤولون إزاءها إمّا إلى طمر الرؤوس في الرمال وإمّا إلى تمنّي اختفائها من الوجود.
سقوط حلم “الريفييرا” إسرائيلية
بعد حرب حزيران 1967، خطّط ليفي أشكول وموشيه دايان ويغئال ألون، لتحويل قطاع غزة “بعد تطهيره من العرب وتعبئته بالمستوطنين اليهود” إلى “ريفييرا إسرائيلية” على شاطئ المتوسط. وفي آب 2005، نشرت صحيفتا “معاريف” و”هآرتس” الإسرائيليّتان تقريرين موثّقين عن هذه المخطّطات السرّية الهادفة إلى تفريغ هذا الشريط من سكّانه الفلسطينيين، وتهجيرهم إلى دول الجوار العربي، لكن انتهت كلّها إلى الفشل الذريع، وإلى “انكسار أحلام” قادة الاحتلال.
قال إسحق رابين: “أتمنّى أن أستيقظ ذات يوم وأجد أنّ غزة غرقت في البحر”. غرق هو نفسه في الدماء بعدما أطلق عليه النار اليهودي المتشدّد يغال عمير وسط مهرجان للسلام في تل أبيب، وبقي القطاع صامداً يغسل ساحله والشواطىء بمياه البحر.
جرّب أرييل شارون قبضته الحديد مراراً لإركاع غزة، ولمّا يئس من المحاولات، تخلّى عن القطاع هارباً بعدما زنّره بأسوار من المستوطنات على طول الغلاف. سقط في غيبوبة طويلة بينما أطفال غزة كانوا يضحكون في السرّ على فشله.
على أسوار القطاع سقط كلّ القادة العسكريين والسياسيين الذين جاؤوا من بعده: شاوول موفاز، موردخاي غور، غابي إيزكوت، أفيف كوخافي ورونين بار، وسيسقط آخرون بالجملة قريباً بعد فضيحة اختراق جدران الغلاف.
إسرائيل أيضاً ليست روما، إذ كشفت في شهرين عن كلّ عجزها وهشاشة بنيانها. أميركا هي روما العصر الجديد
منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول)، يتسابق بنيامين نتانياهو وخصمه بني غانتس في ترداد عبارة “يجب تدمير غزة”، و”يجب تدمير حماس”.
نجح الجيش الإسرائيلي نجاحاً باهراً في القصف والتدمير ومحاصرة المستشفيات وقتل الأطفال. لكنّ هدنة تبادل الأسرى كشفت أنّ المقاومة الغزّيّة لا تزال قوية وثابتة وقادرة على المساومة، وأنّ الحديث عن انهيارها كان مبكراً وعبارة عن أمنية أكثر منه رؤية رصينة للواقع، كما كتبت “يديعوت أحرونوت”. وإذا كان لا بدّ من مواصلة الحرب في ظلّ عدم الإفراج عن كلّ الأسرى فإنّ النتائج المقبلة لن تكون أفضل من النتائج السابقة.
ليس لديهم ما يخسرونه.. لا يمكن كسرهم
غزة ليست قرطاج في أيامها الأخيرة. في المدينة الفينيقية لم تجد الجيوش الرومانية مقاومة كبيرة كما يقول الكاتب السوري جورج حدّاد الذي أضاف: “حينما تقدّم الجيش الروماني لم تجد السلطة الطبقية الغنية الخائنة في قرطاجة من الضروري وضع كلّ إمكاناتها في خدمة إعلان تعبئة عامة وتشكيل قوات دفاع وطنية كبيرة والخروج لملاقاة الجيش الروماني خارج أسوار المدينة، بل كان همّها العمل على إخفاء وتهريب ثرواتها (التي اكتشفها ونهبها الرومان لاحقاً) وتركت الجيش الروماني يحاصر المدينة ويفرض عليها الحرمان والجوع والاستنزاف مدّة ثلاث سنوات قبل أن يجتاحها ويدمّرها تماماً سنة 146ق.م.”.
أمّا المدينة الفلسطينية المقاومة، فكما يقول محمود درويش، برتقالها ملغوم، وأطفالها بلا طفولة، شيوخها بلا شيخوخة، نساؤها بلا رغبات. “ثقافة الموت” لدى أهلها ليست كما يدّعي الإسرائيليون هي التي تشجّعهم على تحدّي الاحتلال والمجازفة بالموت، بل الإحساس بالغضب والمرارة واليأس والرغبة الشديدة المتأجّجة في صدر كلّ شابّ فلسطيني في التمرّد على واقع الخنوع والخضوع والذلّ وتحدّي سلطات الاحتلال الإسرائيلي. هؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه. يُقتلون ويُبعثون من جديد. هؤلاء لا يمكن كسرهم.
إقرأ أيضاً: غزّة: الحرب المدمّرة لم تبدأ بعد..
إسرائيل أيضاً ليست روما، إذ كشفت في شهرين عن كلّ عجزها وهشاشة بنيانها. أميركا هي روما العصر الجديد. هي من أوقفت الكيان على رجليه بالإسمنت المسلّح. هي من تشجّعها على تدمير غزة وأرسلت إليها أفضل خبرائها في مجال تدمير المدن أمثال “سفّاح الموصل والفلّوجة” الجنرال جيمس غلين. لكنّ الضوء الأخضر الذي أعطته واشنطن لتل أبيب لإنجاز المهمّة، تحوّل إلى أصفر بفعل الضغوط الداخلية الأميركية والعجز الإسرائيلي والحسابات الإقليمية. وقد يميل إلى الأحمر لتعود غزة إصبعاً مرفوعاً في وجه إسرائيل.