إنّها لحظة العودة إلى المبادرة العربية للسلام. مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود التي أطلقها من القمّة العربية في بيروت عام 2002.
أن تأتي العودة متأخّرة خير من أن لا تأتي أبداً. وهذا ما يفرضه التعلّم من التجارب. ليس على العرب فحسب، بل على الإسرائيليين بتعجرفهم، عنصريّتهم، لاواقعيّتهم، وغرقهم في التلموديّات.
قبل أيام، أعلن رئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنيّة المطالبة بالذهاب إلى دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية. وهي عودة متأخّرة كثيراً إلى ما طرحه ياسر عرفات.
في وثيقتها السياسية في عام 2017، أعلنت حماس موافقتها على حلّ الدولتين، لكنّها عادت وسلكت مساراً آخر على قاعدة إزالة إسرائيل من الوجود. وها هي اليوم تعود إلى طرحها القديم.
قبل أيام، أعلن رئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنيّة المطالبة بالذهاب إلى دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية. وهي عودة متأخّرة كثيراً إلى ما طرحه ياسر عرفات
ليس الفلسطينيون وحدهم من أهدروا الفرص. فبنيامين نتانياهو نفسه هو أحد نتاجات اليمين الإسرائيلي العنصري والمتطرّف الذي جاء على أنقاض اتفاقية أوسلو، واغتيال إسحاق رابين. كلّ العجرفة الإسرائيلية والمضيّ بسياسة الاستيطان هما اللذان دفعا الفلسطينيين إلى انتفاضات متتالية ومتقطّعة، وصولاً إلى “طوفان الأقصى”. ولا حاجة إلى العودة بالذاكرة كثيراً إلى الوراء. فمشروع تهجير وهدم حيّ الشيخ جرّاح ما يزال ماثلاً في الأذهان. والعمليات الفدائية في الضفة الغربية واشتباكات جنين ضمناً شاهدة على ذلك. وكلّها كانت فعلاً تراكميّاً أدّى إلى قيام كتائب القسام بعمليّتهم العسكرية، بغضّ النظر عن مقاربة الظروف والشروط والأهداف السياسية.
مسؤوليّة المجتمع الدوليّ
يُفترض بكلّ هذه التطوّرات أن توقظ الإسرائيليين من أوهام تلمودية، أو توراتية، وتعيدهم إلى أرض الواقع بأنّه لا يمكن لهم إلغاء شعب ومسح وجود دولة، وأنّ هذا سيؤسّس لقتال متسلسل لا نهاية له. ويفترض بما جرى أن يضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليّاته أيضاً، بعدم التخلّي والانكفاء والسكوت على مجازر تُقترف في المنطقة العربية تهدف إلى تغييرات ديمغرافية وصراعات طائفية ومذهبية تستهدف “العرب السُّنّة” بالتحديد، وهذا ما كان قد بدأ من قبل في العراق وسوريا.
لقد أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض، فمنذ إسقاط نظام صدام حسين، واغتيال ياسر عرفات، واغتيال رفيق الحريري، بدأ مشروع جهنّمي عنوانه “الشرق الأوسط الجديد” أسهم في ضرب كلّ الحواضر العربية، ورمي العرب في الحضن الإسرائيلي على قاعدة ابتزاز أميركي دائم بتخويفهم من المشروع الإيراني بدون الالتزام بمقتضيات التحالف التاريخي وموجباته، فلم تلقَ الاعتداءات الإيرانية على “أرامكو” السعودية وعلى الملاحة في الخليج أيّ ردّ فعل، فيما سمحت أميركا لإيران بالسيطرة على طهران وبغداد ودمشق وبيروت.
الاستفراد بغزّة اليوم سيقود إلى نتائج كارثية على مستوى المنطقة بالمعنى الاستراتيجي، وستكون تداعياته في غاية الخطورة على أيّ مشروع عربي. وهذا بالذات ما تفطن إليه الدول العربية، ولا سيما مصر ودول الخليج العربي، وهو العنوان الأبرز لكلّ المساعي التي بُذلت عربياً منذ اندلاع المعارك، فبعضها الذي كان علنياً وبعضها الآخر الذي كان صامتاً أسّسا لاستضافة الرياض القمّة العربية يوم السبت المقبل، والقمّة الإسلامية يوم الأحد، في سبيل تكوين موقف عربي وإسلامي واضح لوقف العدوان على غزّة وإطلاق جدّي لحلّ سياسي. يأتي ذلك في ظلّ وجود غالبية مسؤولي الخارجية الأميركية في المنطقة. وهذا يعني أنّ الأميركيين يعملون على إعداد خطّة تتضمّن اقتراحاً لحلّ شامل في المنطقة ككلّ.
في وثيقتها السياسية في عام 2017، أعلنت حماس موافقتها على حلّ الدولتين، لكنّها عادت وسلكت مساراً آخر على قاعدة إزالة إسرائيل من الوجود. وها هي اليوم تعود إلى طرحها القديم
المرجعيّة السعوديّة للحلّ الفلسطينيّ
يتركّز العمل على ضرورة السعي الجدّي إلى الوصول إلى اتّفاق حلّ سياسي حول حلّ الدولتين، وهو ما ينطلق من الدفع باتجاه تكريس هدن إنسانية في البداية، وصولاً إلى وقف لإطلاق النار، ومنع تهجير الفلسطينيين من غزّة أو الضفّة، ووقف مشروع التوسّع الاستيطاني.
انعقاد القمّتين في الرياض تأكيد على المرجعية العربية للقضية الفلسطينية، وأنّ حلّها لا بدّ له أن ينطلق من مشروع عربي متكامل هدفه تكريس الاستقرار في المنطقة، ولا يمكن تكريسه بدون حلّ القضية الفلسطينية وإنشاء دولة عاصمتها القدس الشرقية.
في ضوء المفاوضات التحضيرية التي حصلت لعقد القمّة، وإثر اللقاءات التي عُقدت بين مسؤولين عرب ومسؤولين أميركيين، وآخرها اللقاء بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، لم يظهر توافق كامل مع السياسة الأميركية، التي تبدو منحازة بوضوح إلى الإسرائيليين. وهو ما يعيد إحياء منطق الانقسام الكبير بين الشرق والغرب لكن بمفعول رجعي هذه المرّة عمّا حاول الأميركيون تكريسه بعد أحداث 11 أيلول.
هذا ما يدفع العرب إلى الضغط أكثر في القمّتين لوقف إطلاق النار، وتراجع الإسرائيليين عن أهدافهم المعلنة على قاعدة منعهم من تطبيقها، وبعدها البحث عن حلّ سياسي. فيما يحاول الأميركيون منح المزيد من الوقت لتل أبيب في سبيل تحقيق أيّ إنجاز عسكري ما يزال متعذّراً حتى الآن.
الحلّ بالبرغوتي أم قوّات عربيّة؟
من بين الأفكار المطروحة أيضاً، ذلك السؤال الأكبر المتعلّق بمصير قطاع غزّة بعد الحرب. وهنا ثمّة أفكار عديدة تُطرح، بعضها يبدو غير قابل للتطبيق، كتسليمها للسلطة الفلسطينية بشكل كامل. فيما يجري البحث عن صفقة تبادل أسرى كبيرة تشمل الأسير مروان البرغوتي، الذي يمكنه أن يعمل إلى جانب الكثيرين في منظمة التحرير لإعادة تشكيلها، على قاعدة الالتقاء مع حماس، التي لا يمكن إنهاؤها أو سحقها، لكن يمكن توجيهها باتجاه بعض الإجراءات السياسية كما فعلت منظمة التحرير بعد الانتفاضة الأولى وصولاً إلى أوسلو.
إقرأ أيضاً: القمة العربية أمام تحدي انتزاع المبادرة من إسرائيل وإيران
فكرة أخرى مطروحة أيضاً، وهي إدخال قوات عربية أو إقليمية إلى قطاع غزّة لتسلّمه وإدارته، وفي هذا المجال ستكون مصر هي الدولة الأبرز وصاحبة الدور الأكبر، لكنّها أيضاً فكرة ما تزال غير ناضجة وغير مكتملة التفاصيل التي تمنحها القابلية للتطبيق.
يكرّس كلّ ذلك واقعاً لا مفرّ منه، ولا بدّ من قراءته، وفق عنوان سرمدي: “فلسطين عربية”، والعرب هم المعنيون بحلّ قضيّتها لما لذلك من اتّصال بأمنهم القومي الذي طالما خُرق باسم القضية و”على طريق القدس”.