لا أعرف من أطلق عليه وصفَ “خمر المؤمنين”، لكنني أتذكّر أنّ أمي كانت، ولا تزال، لا تشرب الشاي إلّا بعد أن “يتخمّر”. وكانت تقول أحياناً: “يتخدّر”، وظنّي أنّ الثانية مرتبطة بالأولى، لجهة المفعول. فالخَدَر من آثار الخمر. وكان شاي أمي جنوبياً، “تطبّقه” على الطريقة العراقية المأخوذة على الغالب من أسلوب إيراني مستمدّ ربما من أذربيجان أو أفغانستان أو باكستان أو حتى تركيا وأرمينيا وروسيا في إعداده. فيكون الشاي موضوعاً في إبريق مع ماء مغليّ ليتخمّر على بخار إبريق أكبر حجماً يوضع تحته على النار، في تطبيق لمبدأ “السماور” وهي وعاء معدني يستخدم لغلي الماء وتحضير الشاي، ويعمل إما على الكهرباء أو على الفحم.
إقرأ أيضاً: بيروت في القصائد والأغاني: “زهرة في غير أوانها”..
والشاي كان سيلانياً على أنواع، وأمي كانت ترضى عن نوعين اثنين فقط شاعا، ولا يزالان، حتّى اليوم في بيوتنا: “الوزّة” ذو العلبة الحمراء و”رأس الحصان” بالعلبة الصفراء. وكلاهما مصدره سيلان، أو سري لانكا، التي قدّمت لعائلتنا، ولعائلات كثيرة أخرى، إلى الشاي، حبّاً لا حدود له.
فمن بلاد الشاي، حضرت ماليكا الى بيتنا وكان لي من العمر ثماني سنوات. وصلت السيدة السمراء النحيلة إلى البيت ومعها ثيابها الملفوفة في شرشف كبير من القماش. لم تكن تمتلك حقيبة سفر. حملت بعض الثياب في قماشة وقطعت آلاف الأميال، تاركةً أطفالها، لتعمل كمساعدة منزلية في شقتنا الصغيرة. كانت أمي مع أبي يعملان طوال النهار، وكانت ماليكا ترعانا، أخويّ وانا، في غيابهما. كانت تلعب دور الأم والأب على السواء. وكانت تهبنا حبّاً لا يمكن تقريشه بمال أو مبادلته بشاي. كان حباً متخمّراً مخدّراً، ينبض كما يغلي الشاي في الإبريق ويسيل كمثل هطول الدم السيلاني في الأكواب الشفّافة، ويطلع كما روح أوراق النبتة، في البخار، إلى السماء.
الشاي بقي “يتخدّر” و”يتخمّر” سنة بعد سنة. ثم غادرت ماليكا بعد سنوات إلى سيلان، لتبقى أمي وحدها مع الشاي السيلاني، وروحه التي تتبخّر، وطعمه الذي لا يكسر مرارته سكّر
وكان البخار أختي الصغيرة، التي ولدت بعد عامين من حضور ماليكا. وقبل اختمار الفرحة، في عمر الأربعة أشهر، تبخرّت الطفلة. صعدت كما روح الشاي إلى السماء، وصار للدم السيلاني طعم المرارة. منذ ذلك اليوم، وأمي تضع في الشاي سكّراً زائداً. ومنذ ذلك اليوم، لا أذكر أنّني رأيت ابتسامة ماليكا. صورتها الأخيرة العالقة في ذاكرتي ضاحكة، كانت وهي تحمل أختي (روح الشاي) بين ذراعيها في حفلة رأس السنة التي أمضيناها في المنزل في جلسة عائلية على سجادة غرفة الجلوس، نشاهد التلفزيون، ونأكل الحلوى. كانت تلك ليلة الفرح الأخيرة. بعدها ماتت اللمعة في عينيّ أمي، وأطبقت ماليكا ظلام الحداد على لمعة لؤلؤها.
لكنّ الشاي بقي “يتخدّر” و”يتخمّر” سنة بعد سنة. ثم غادرت ماليكا بعد سنوات إلى سيلان، لتبقى أمي وحدها مع الشاي السيلاني، وروحه التي تتبخّر، وطعمه الذي لا يكسر مرارته سكّر.
اليوم تعود ماليكا. تعود ابتسامتها مع خبر تقديم سري لانكا 1675 كيلوغراماً من الشاي إلى المتضرّرين من تفجير بيروت. وقد قرأ كثيرون الخبر بكثير من السخرية. لكن من يعرف معنى الشاي، يعرف أنّ هدية كهذه بمثابة تحية للأرواح التي تبخّرت. وأعرف أنّ من بين الكيلوغرامات الـ 1675 كمشةٌ صغيرة من ماليكا لنا، لنضعها في إبريق حياتنا، ولنستعيد مع غليانها في الماء ذكرياتنا، بحلوها ومرّها، ولتعود إليّ تلك الصورة الأخيرة لـ ماليكا، وهي تضحك وبين ذراعيها روح… أمي.