عن احتضار سوق فرن الشبّاك

مدة القراءة 5 د


إنّه ليس يوم الأحد، وليس يوم عطلة رسمية في لبنان، بل هو يوم عادي كغيره من أيام الأسبوع، إلا أنّ لعنة الإقفال فتكت بأحد أقدم أسواق بيروت التجارية، سوق فرن الشباك، وغيرت ملامحه.

المشهد محزن، والمارّة يكملون طريقهم على عجل من دون حتّى أن يسترقوا النظر إلى معروضات المحلّات التجارية. وحدها التنزيلات والحسومات تحاول كسر مشهد الإقفال المتنشر في سوق فرن الشباك التجاري، لكن حتىّ هي الأخرى لم تلفت أنظار المارة.

هنا محل معروض للبيع، وهناك محل للإيجار، وآخر يرفع راية “التصفية العامة” استسلاماً لأزمة شرسة ضربت السوق الموغل في القدم، والذي كان مقصداً لسكان بيروت والمتن الشمالي والجنوبي والجبل في “أيام الخير”، وقبل استحداث أسواق تجارية في المناطق كافّة، على حدّ توصيف “طوني” العمّ الستيني صاحب محل بياضات منزلية في منتصف “فرن الشباك”.

إقرأ أيضاً: “المنكوبين” (4): خزانات ميقاتي ومدرسة كرامي

يُخلِي طوني كرسيه البلاستيكي ويدعونا إلى الجلوس حيث كان “يتساير” مع صاحب محل الملابس المجاور له في “عصرونية ما بعد الظهر”، ويتحسّر على أيام العزّ في محلّه الذي افتتحه العام 1982. “أيام ذهبية”، يقول عنها: “ما كِنّا نقعد، كان سعر قميص النوم 35 ليرة وأذكر جيداً أنّني بعت في يوم واحد 235 قميصاً منه”.

يتمنّى لو أنّ الزمن توقّف هناك، ولم يصل إلى هذه المرحلة حيث تراجعت المبيعات 80 و90 %. نختم زيارتنا السريعة له بالسؤال: “هل أنت باقٍ هنا”، فيجيب: “لو ما كان المحلّ أجار قديم ما كنت قدرت، لأنّ الإيجارات الجديدة تتراوح بين 1500 و2000 دولار للشهر الواحد”.

يربط سمعان الأزمة باستراتيجيات المصارف في إذلال الناس التي وحدّت الحال بين المستهلكين

قرب المحل نفسه نرى محلاً معروضاً للبيع، نتصل بصاحبه، نيكولا فرح، الذي قرّر التخلّي للأبد عن هدية والده، محل الأقمشة الذي يعود عمره للعام 1985. وهو المحل الذي أجّره بعد إقفاله أوّل مرة لثلاث تجار أحذية تعاقبوا على استئجاره منذ عشرين سنة. يقول فرح بغضبٍ عارم: “حالف يمين ما بقى أجّر لحدا”. ويربط السبب بعدم تمكّنه من تحصيل بدل الإيجارات من التُجّار الذي باتوا غير قادرين على تسديد التكاليف المتوجبة عليهم بسبب الأزمة الاقتصادية وتراجع المبيعات، ويختم حديثه على عجل ويعبّر عن نقمته مما آلت إليه الأوضاع: “عيب على شرفي لو بصرلي هاجر إذا بقعد دقيقة أنا وعيلتي بهالبلد”.

لكلّ محل أقفل أبوابه هنا قصة، فشربل حويك ليس أفضل حالاً من شركائه في الأزمة. هو الآخر محلّه، الذي كان مخصصاً للملابس لأكثر من 25 سنة ومن ثم محلاً للأدوات المنزلية المستعملة لستّة أشهر، عرضه للإيجار منذ نهاية العام 2019، للأسباب نفسها، ولم يطرق بابه زبون واحد حتى اليوم.

جان عبود صاحب محل “ليال” للملابس الأوروبية، منذ 1983. أقفل أبوابه قبل 10 أشهر وقرّر الهجرة النهائية إلى كندا. لم يتّصل به أحد ليطلب استئجار المحل بعد، رغم تخفيضه بدل الإيجار من 25 ألف دولار سنوياً إلى 10 آلاف دولار فقط.

وتكرّ سبحة الروايات المحزنة في سوق فرن الشباك، لتنعكس بسلبيتها على رئيس البلدية ريمون سمعان، الذي يرفع هو الآخر راية الاستسلام أمام الأزمة الشرسة. ويؤكد أنّ المواطن “الذي يشحذ 200 دولار من المصرف كلّ أسبوع أو أسبوعين بات همّه لقمة عيشه وبات مستغنياً عن شراء أي قطعة ملابس وإن لم يتجاوز سعرها الـ10 آلاف ليرة، مقابل أن يؤمن ربطة الخبز لعائلته”.

[PHOTO]

يربط سمعان الأزمة باستراتيجيات المصارف في إذلال الناس التي وحدّت الحال بين المستهلكين. حتّى المقتدر مالياً لا يستطيع اللجوء إلى لأسواق التجارية لأنّه لا يستطيع سحب أمواله. ويؤكد أنّه في المدى المنظور، وقبل حلّ أزمة المصارف، لا يمكن الحديث عن أيّ حلول للأزمة التجارية في سوق فرن الشباك. فالأولوية باتت للأمن الغذائي وليس للحركة التجارية، بحسب رأيه.

لا خارطة حلول أيضاً لدى رئيس جمعية تجّار فرن الشباك جورج رزق. فالسوق الذي يمرّ بمعاناة قاسية منذ ثلاث سنوات كانت حركته في تراجع مستمرّ وأثرّت في السيولة بين أيدي التجار وتسببت في العجز عن تحديث السلع ونوعيتها. وبعد تراجع نسبة المبيعات 30 إلى 40 % في العام الماضي، ارتفعت هذه النسبة، منذ أربعة اشهر لتتجاوز الـ70 %، رغم محاولات بعض التجّار تصريف بضائعهم بواسطة حسومات وصلت إلى 90 % من أجل سداد ديونهم لا أكثر.

حتّى تنظيم المهرجانات والبازارات وأشهر التسوّق ما عادت تنفع في مرحلة قاسية يصفها رزق بأنّها “مرحلة تحت الصفر” بسبب أزمة “فرق الدولار”، وانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية قبالته، والأوضاع غير المستقرة وانخفاض القدرة الشرائية للناس، ما راكم التحديّات إلى درجة أدّت إلى إقفال 38 محلاً ومؤسسة تجارية في سوق فرن الشباك خلال شهرين بين نهاية العام 2019 وبداية 2020 .
إذا كانت هذه أحوال الأسواق الشعبية فحدّث ولا حرج عن حال أسواق متوسطي الدخل وما فوق.

مواضيع ذات صلة

روايات ليلة سقوط الأسد… وخطّة الحزب “لإعادة التموضع”

في الحلقة الثانية من هذا التحقيق، تلاحق مراسلة “أساس” روايات العائلات النازحة في البقاع الشرقي وتحديداً منطقة الهرمل. وتسألهم عن ليلة السقوط الكبرى. كما تسأل…

لماذا يخاف شيعة البقاع من “بُعبُع” المعارضة السّوريّة؟

سقط بشّار الأسد وعاد عدد كبير من النازحين السوريين إلى بلدهم. لكن في المقابل شهدت مناطق البقاع، وتحديداً بعلبك الهرمل، نزوحاً معاكساً هذه المرّة للسوريين…

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…