شارفت رحلتنا في حيّ المنكوبين على الانتهاء، يتمهل أحدهم إلى جانبنا على دراجته النارية ذات الصوت المرتفع، يسأل عن هدف زيارتنا، ثم يكمل طريقه وينصح أحمد، مرافقنا إلى حيّ النكبات بأن يعرّفنا على “شارع الأرامل” المجاور، تلفتنا التسمية والتي تبّين أنّ سببها وفاة أربعة رجال، آباء “جيران” من الشارع نفسه في معارك طرابلس، ليكون علامةً فارقة جديدة على النكبات المتعاقبة التي لحقت بحي المنكوبين.
نسأل عن إحدى الأرامل، نقصد منزلها، فتسرع لإغلاق الأبواب والنوافذ، وتصرخ بوجهنا: “شو بدكن منّي؟”. وتنكر أن زوجها مات في معارك التبانة – جبل محسن وتقول: “زوجي مات في حادث سير، حلّوا عني أنا ما ناقصني”. وبعد جولاتٍ من الإقناع ومحاولات كسب الثقة، خرجت إحداهنّ عن صمتها وقرّرت الحديث مع شرط عدم ذكر اسمها.
إقرأ أيضاً: “المنكوبين” (3): ما كان ناقص إلاّ داعش!
“لدي ولدان، أعيش على أدوية الأعصاب والمهدئات ومضادات الاكتئاب منذ أن توفي زوجي قبل خمس سنوات، لكن الوضع الآن يزداد سوءاً، الأطفال منذ شهر من دون مدرسة، لا أستطيع دفع بدل (الأوتوكار)، وكان هناك بعض الخيّرين يرسلون لنا بعض المساعدات عبر جمعيات للأيتام لكن منذ ما يقارب الشهرين، ما عاد يصلنا شيء بحجة إغلاق المصارف والأوضاع الصعبة المخيّمة على الجميع”.
تخشى الأرملة المفجوعة بزوجها، والتي ترفض الحديث عن تفاصيل الحادثة المؤلمة، أن يعيش أولادها حياةً مشابهة، وهمّها الأول “أن يتابع الأطفال علمهم و يخرجوا من هذا الحيّ، فلا أمان ولا مستقبل ولا أمل في هذا المكان”.
تلفت نظرنا الأرملة بحديثها هذا إلى عدم وجود مدرسة في الحيّ، فالمدرسة الوحيدة التي يتردّد بين الأهالي بأنّ عائلة كرامي قامت بافتتاحها في المنكوبين وعادت وأقفلتها في العام 2004 بعد عدم حصولها على أصوات ناخبي المنطقة. ثمّ تحوّلت إلى ثكنة للجيش، بعد أحداث طرابلس. وهناك مستوصف واحد يعود أيضاً لأحد زعماء المدينة “يطبّب الناس عبر إعطائهم الدواء مقابل أصواتهم أو مقابل 5 آلاف ليرة. أما إذا أصيب أحد الأهالي بعارضٍ صحّي أو كان بحاجة إلى عملية جراحية، فتصبح حياته في خطر ورهن رضى العائلة صاحبة المدرسة نفسها التي تمتلك مستشفىً مجاوراً في المدينة”.
يقول الناشط الإعلامي الذي رافقنا: “حتّى مياه الشرب مرهونة سياسياً عبر خزانات يملكها الرئيس نجيب ميقاتي، يدفع الناس مقابل الحصول عليها 20 ألف ليرة في وقت لا يمتلك البعض ليرة واحدة من هذه الآلاف العشرين”.
تقف متأملاً في كل هذا الإهمال، وترى أنّ زعماء طرابلس، رغم خلافاتهم الشرسة، يتفقون على شيء واحد هو استغلال معاناة المنكوبين، في حيّ لا يبتعد إلاّ كيلومترات قليلة عن قصورهم المشيدة على أوجاع الناس، ومع هذه الحال نستغرب الحضور شبه النادر لصور الزعماء في الحيّ، والتي بعد البحث والتدقيق يعترف أصحابها أنهم يستعملونها بهدف “التدراية” أي “الحماية من المطر والهواء لا أكثر ولا أقل”.
رغم العلاقة “النرجسية” بين الزعماء والأهالي إلا أنّ للثورة مكاناً خجولاً في حيّ المنكوبين، وإن كانَ نَفَس التمرّد موجود وبقوة بين صفوفهم
فماذا عن الانتخابات؟ تجيب أم مازن وهي أربعينية جالسناها في إحدى زوايا الحيّ: “يزحفون زحفاً إلى الحيّ في موسم الانتخابات، ويركعون أمام أرجلنا، ليحصلوا على أصواتنا” نسألها وأنتم ماذا تفعلون هل تنتخبونهم؟ فتجيب: “لا أخفيكِ الحق، فمَن لديه ولد أو مسنّ مريض بحاجة لاستشفاء مستمر، يضطر للتصويت لهم، ومن يدفعون له ثمن صوته 50 ألف ليرة وهو بأمسّ الحاجة لها ليطعم أولاده ويشتري بعض المستلزمات التي تقي عائلته شرّ الجوع سيبيع صوته، علماً أن كثيرون يصوتون طمعاً بالـ50 الألفاً التي لا تصلهم في كثير من الأوقات، لأن من انتدبوهم كمسؤولين عن المنطقة كفيلون بسرقة الكحل من العين”.
ورغم العلاقة “النرجسية” بين الزعماء والأهالي إلا أنّ للثورة مكاناً خجولاً في حيّ المنكوبين، وإن كانَ نَفَس التمرّد موجود وبقوة بين صفوفهم. ونرى الحاج أبو مازن يجرّ الحديث فوراً إلى أوضاع الشارع، بعد معرفته خلفيتنا الصحافية، ويردّ بصوتٍ مرتفع: “القوى الأمنية تلاحقنا على الهواء، فليذهبوا إلى الغلاء، إلى المصارف، إلى من وظفوا الغرباء في المرفأ وفي مؤسسات المدينة وتركونا محرومين”.
أحمد، الشاب العشريني الذي وجد لنفسه عملاً في إحدى الجمعيات غير الحكومية NGO، يُعيد سبب المشاركة الخجولة في الاحتجاجات الشعبية إلى “الهم المعيشي الكبير المتربص بأبناء الحي، فليس لديهم رواتب شهرية يتكلون عليها أو مردود ثابت، وهمّهم الوحيد السير وراء لقمة العيش”. وبالعودة إلى محمود الحموي، فهو أخبرنا أيضاً أنّ ابنه “اعتُقل في بيروت في وزارة الدفاع لـ25 يوماً لأنه شارك في تظاهرات بيروت، ولولا محامي المجتمع المدني لظلّ معتقلاً حتى الآن”.
وفي ختام زيارتنا الميدانية للحيّ، التي كانت في منتصف الشهر الأول من السنة، بعد مرور 3 أشهر على اندلاع الثورة في الشارع، رفع أحمد يده إلى الأعلى، أشار بإصبعه إلى بنايةٍ تعتبر شاهقة الارتفاع في جبل محسن نسبةً لما يجاورها، وقال: “من على هذه البناية كان الموت يتصيّد أرواح شبابنا في معارك طرابلس عبر قناصين، وللأسف خسر كثيرون أرواحهم بالرخيص، عاشوا من قلّة الموت حتى ملاقاته…”.
“ألمنيوم عتيق للبيع.. حديد.. نحااااس عتيق للبيع”، يخرق بائع الخردة بصوته المرتفع صمت المكان، قبل توديعه، ويعيدنا إلى الطفل الذي كان بالقرب من ملعبٍ أفاد الأهالي أنه هو الآخر، كحال البئر والمستوصف وغيرها من المنشآت الحيوية رهن الاسترضاءات السياسية ولا يمكن الدخول إليه إلا بإذن… حيث كان يبيع الطفل أحلامه ليشتري بها لقمة عيش.