تريد الدولة اللبنانية استعادة مليارات الدولارات التي جنتها المصارف من عمليات الهندسة المالية، وما تسمّى “الفوائد الفاحشة” التي حصّلها بعض المودعين. لكنّ هذه الأموال لن تذهب إلى خزينة الدولة، ولا إلى المودعين الواقفين على أبواب البنوك، بل إلى صندوق استثماري سيكون هو “الدولة الموازية” الجديدة التي ستهيمن على أهمّ الأصول الحكومية، من الواجهات البحرية، إلى أثمن الأراضي المملوكة للدولة، مثل نادي الغولف قرب المطار، وربما مرافق الاتصالات والكهرباء و”الميدل إيست” والكازينو، وغيرها مما لا تعلمون.
من هنا يبدأ العهد العوني في حكم لبنان.
علّة وجود الصندوق المعلنة هي تعويض المودعين، لكنّ عنوانه توسّع سريعاً إلى شيء مختلف تماماً. إذ إن رئيس الجمهورية ميشال عون يريده صندوقاً “للإنماء”، وفق ما صرّح أحد أركان فريقه، رئيس القطاع الاقتصادي في التيار الوطني الحر شربل قرداحي، وهو بالمناسبة أحد الذين عملوا على إعداد الخطة الحكومية، وهو في عداد الفريق الذي يفاوض صندوق النقد الدولي باسم الدولة اللبنانية من دون أيّة صفة رسمية معلنة، فلا هو مستشار رئيس الجمهورية، ولا هو مستشار رئيس مجلس الوزراء أو وزير المالية، ولا هو موظف في وزارة المالية. صفته الوحيدة المعروفة هي الصفة الحزبية ووظيفته في واحدة من شركات الخليوي.
إقرأ أيضاً: صندوق النقد: افتراق الأجندات بين عون وحزب الله
تقوم فكرة الصندوق، كما في نصّ الخطة الحكومية، على تحويل شريحة كبيرة من ودائع الناس في البنوك إليه وشطبها من دفاتر البنوك، ليتولّى الصندوق تعويض أصحابها إلى “حدّ معيّن” غير محدّد حتّى الآن، لكن على مدى سنوات طويلة. المنطق يقول إنها ستكون أكثر من عشر سنوات… أكثر بكثير.
تشير خطّة الحكومة بأسطر قليلة إلى أن موارد الصندوق ستأتي من المصادر التالية:
– الأموال المنهوبة واستراتيجية مكافحة الفساد.
– عوائد بعض الأصول الحكومية.
لا تورد الخطة مزيداً من التفاصيل. غير أن بواطن التفكير العوني كشفها قرداحي في مقابلة تلفزيونية، أكد خلالها أنّ أموال الهندسات المالية التي ستعيدها البنوك ستدخل إلى الصندوق “التنموي” المقترح.
الحديث هنا عن مبالغ بمليارات الدولارات. يكفي العلم أنّ هندسة مالية واحدة في العام 2016 حقّقت للبنوك أرباحاً بنحو 5.6 مليار دولار، وفق سعر الصرف الرسمي، أو 8540 مليار ليرة. وقد دفعت البنوك ضرائب عن هذه الأرباح بنحو 1281 مليار ليرة، أي نحو 850 مليون دولار. ما يعني أن الدولة تريد إلزام البنوك بإعادة نحو 7300 مليار ليرة، أي ما يعادل 4.8 مليار دولار وفق السعر الرسمي (الحالي)، أو ملياري دولار وفق سعر 3500 ليرة للدولار، المشار إليه في الخطة الحكومية.
ويضاف إلى هذه المليارات التي ستدخل إلى الصندوق، بنصّ كلام قرداحي، “الفوائد الكبيرة” التي حصل عليها بعض عملاء المصارف، وهي حسب تعريفه، الفارق بين “شخص حصل على فائدة بثلاثة أو أربعة أو خمسة في المئة، وشخص حصل على 15 أو 18 أو 20 في المئة”. ويضيف: “هذا الهامش سيؤخذ ويعاد إلى الصندوق”. وهذه أيضاً مبالغ تقدّر بالمليارات، وربما بعشرات المليارات.
يبدو أنه لم يسمع ما قاله النائب نهاد المشنوق أمام لجنة المال في المجلس النيابي أنّ المودعين اللبنانيين غامروا بوضع أموالهم في المصارف اللبنانية في الوقت الذي ينحدر فيه مستوى تصنيف لبنان دولياً، بينما تدفع المصارف المصرية 20 بالمائة على الودائع بالجنيه المصري وكذلك تركيا الدولة المتقدّمة في الصناعة والزراعة والتصدير تدفع 24 بالمائة على الودائع بالليرة التركية خلال المدة الزمنية نفسها التي يتحدّث فيها قرداحي عن فوائد الودائع بالليرة اللبنانية، بعيداً عن الهندسات المالية.
وكان المشنوق قد طالب بأن يدير لبنانيون الصندوق السيادي بإشراف مباشر من صندوق النقد الدولي.
ربما يكون في مخيال العونيين أن هذا من حقّهم السلطوي، كمفعول رجعي لحصّتهم المقابلة لـ”مجلس الإنماء والإعمار” و”مجلس الجنوب” و”صندوق المهجرين”
ويتحدّث قرداحي عن أراضٍ وأماكن “كتير حلوة”، من “نوادٍ ومنتجعات” تملكها الدولة وتؤجرها بمبالغ زهيدة (وهو وصف ينطبق على نادي الغولف ذي المساحة الشاسعة على طريق المطار)، وهذه يمكن إعادة تقييم قيمتها الإيجارية “على مدى عشر سنوات، وإيداع الفرق في الصندوق”.
كما يشير إلى إمكانية استثمار مساحات شاسعة من الواجهات البحرية، وتحويلها إلى شواطئ مدرّة للعوائد. ويذهب إلى ما هو أبعد، فيتحدّث عن إمكان وضع مشروع القطارات المستقبلي تحت مظلة هذا الصندوق.
وهناك من يتحدّث عن إمكان أن يهيمن الصندوق على شركتي الاتصالات وعلى شركة كهرباء لبنان، بعد تشريكها.
ببساطة، يتحوّل “صندوق عون” إلى كيان استثماري سيادي يدير موجودات بعشرات مليارات الدولارات، ويهيمن على أهم أصول الدولة ومعظم عوائدها غير الضريبية، ولا ينتهي دوره بأن يدفع التعويضات للمودعين على سنين طويلة من عوائده. سيكون دولة اقتصادية واستثمارية عملاقة ضمن الدولة.
ربما يكون في مخيال العونيين أن هذا من حقّهم السلطوي، كمفعول رجعي لحصّتهم المقابلة لـ”مجلس الإنماء والإعمار” و”مجلس الجنوب” و”صندوق المهجرين”. لكن سيكون عليهم إيجاد تكييف دستوري مقنع لإبعاده عن وصاية رئيس مجلس الوزراء السنّي أو وزير المالية الشيعي.
هل يصل الأمر بالعونيين حدّ التفكير باستغلال أزمة الودائع لإنشاء دولتهم الاقتصادية ضمن الدولة؟
قد يجيب على ذلك “نضالهم” من أجل استملاك أراضٍ بمئات ملايين الدولارات في سلعاتا لإنشاء معمل كهرباء يخصّهم، فيما الدولة لا تجد ما تدفع به فوائد ديونها.