يواجه لبنان أزمة أقل ما يُقال فيها إنّها كارثية. لا يمكن لأيّ حكومة أو سلطة أن تتحمّل وحدها مسؤولية الخراب الذي يحلّ بنا. هي أزمة كونية تستدعي تضافر كل الجهود. “البحصة” هنا لا تقل أهمية عن “الحجرة” التي تَسْنُد “الخابية”. والخابية هي حتى الآن مستشفى رفيق الحريري الحكومي. في ذلك المستشفى أطباء وممرّضون وموظفون من فئة الأبطال الذين رفضوا الاستسلام أمام وحشية الفيروس. ولكن أمام الاجتياح السريع لا يمكن للمستشفى أن يكمل المهمّة لوحده.
يحتاج النظام الاستشفائي في لبنان إلى كل قرش دعم ومساعدة، خصوصاً بعدما أثبت مستشفى الحريري أنّه قد يكون نموذجاً يحتذى به، إذا ما جرى تعميمه على المستشفيات الحكومية التي يفوق عددها الثلاثين. يمكن دعمها وتجهيزها لمواجهة خطر الكورونا المحدق.
إقرأ أيضاً: يا أثرياء لبنان: جهّزوا المستشفيات.. فالتاريخ ينتظركم
وفي لحظات صعبة من هذا النوع، عادة ما يُظهر اللبنانيون حسّاً وطنياً يتجاوز كلّ خلافاتهم وحرتقاهم. وها هي الـMTV مع مارسيل غانم تجترح معجزة مباشرة على الهواء من خلال تنظيم “تيليتون” تاريخي نجح في جمع حوالي 25 مليار ليرة لدعم العمل الجبار الذي تشهده مستشفى رفيق الحريري وتجهيز بقية المستشفيات والقطاعات العاملة في مواجهة الفيروس.
أحد المتبرّعين الذين لبّوا الندء أرفق رسالته ببعض الكلمات المعبّرة التي تقول إنّه مستعد للتبرع بكلّ ما في جيبه، وجيبه لا يحوي أكثر من مئتي ألف ليرة.
يمكن لرسالة هذا المتبرّع، أن تصلح كنشيد للكورونا، يُتلى يومياً، لا بل كلّ ساعة وكلّ دقيقة، على مسامع أصحاب الحسابات المليونية. هؤلاء الذين تشكّل حسابتهم 10 % من مجمل الحسابات الموجودة في المصارف اللبنانية فيما ودائعهم تشكّل 90 % من مجمل الودائع.
هؤلاء معروفون بالاسم والشهرة وعدد الأصفار التي تختزنها حساباتهم، خصوصاً وأنّ “كرمهم” عادة ما يكشف على درب الاستحقاقات. وعادة ما يكونون أشبه بحبة الكرز التي تزيّن قوالب حلوى القوائم الانتخابية كونهم صناديق تمويلها.
دعونا هنا نستعين بلعبة الأرقام قليلاً: 11 مليارديراً لبنانياً يمتلكون أكثر من 33 مليار دولار
في المقابل، لم يتردّد بعض السياسيين المتموّلين من الانضمام إلى صغار المتبرّعين عبر شاشة التلفزيون. يتباهي بعضهم بوضع عدد من ملايين الليرات بتصرّف القطاع الصحي المتهيّب لمحاصرة الوباء. خبر تبرّع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي بثمانين مليون ليرة (أيّ حوالى 32 ألف دولار إذا اعتبرنا أنّ سعر الصرف 2500 ليرة) لتمكين المستشفى الحكومي في طرابلس من شراء آلة PCR الخاصة بفحص “كورونا”، تصدّر المواقع الإلكترونية وكأنه بحجم اكتشاف علاج للفيروس.
هل من يخبر “دولة الرئيس” أنّه فيما لو تفشى “الكورونا” في طرابلس قد نحتاج إلى عشرات آلات PCR لا بل المئات؟.
لعبة الأرقام
دعونا هنا نستعين بلعبة الأرقام قليلاً: 11 مليارديراً لبنانياً يمتلكون أكثر من 33 مليار دولار. حلّ الرئيس نجيب ميقاتي الأول لبنانياً في قائمة الأثرياء العرب التي تضعها “فوربس” لعام 2017، والرقم 13 عربياً بثروة قُدّرت بنحو 2.6 مليار، وحلّ شقيقه طه من بعده بثروة مماثلة تقريباً. حلّ بهاء رفيق الحريري المركز 18 بثروة قدّرت بـ2.2 مليار دولار. روبير معوض المركز 24 بثروة تقدّر بنحو 1.6 مليار دولار.
أيضاً وأيضاً: صحيح ان المرشّح في المتن الشمالي سركيس سركيس لم يرد إسمه في مجلة “فوربس” ولا في قائمة الناجحين في الانتخابات لكنه يستطيع ان يتصدّر لائحة المبادرة بالخير لتجهيز مستشفى ضهر الباشق .
نائب رئيس الحكومة السابق عصام فارس تقدّر ثروته بـ2.3 مليار دولار. وهو الذي يعرف العكاريون أنّه من أصحاب الأيادي البيضاء، لكنّ مستشفى الراسي، في حال يرثى لها في عكّار نفسها. ويمكن له بشحطة قلم لا تقدّم أو تؤخر في تسلسل أرقام ثروته، أن “ينفض” المستشفى التي سيحتاجها أبناء منطقته اليوم أكثر من أيّ وقت مضى.
“القصور” التي يملكها الوزير السابق محمد الصفدي لم تحمه من تسلّل الوباء إلى جسده عافاه الله، وهو الذي يدير شبكة أعمال في عدد من الدول العربية وأوروبا من خلال مشاريع استثمارية متنوعة شملت قطاعات البناء والإسكان، والطيران والتكنولوجيا والسياحة والمصارف. ومع ذلك، يبحث الطرابلسيون عمن يساعدهم لتأهيل “الكواليتي إن” لاستقبال حالات الحجر الصحي.
ولا شك بأنّ الذعر الذي تعانيه منطقة زغرتا قد بلغ مسامع المليادير جيلبير الشاغوري، الذي يتردّد أنّه “حاتم طيّ” مع السياسيين وأحد “بطاقات اعتمادهم”. إسم الرجل مُعلّق في صالات متحف اللوفر الفرنسي وعلى جدار كلية طب في لبنان. لكن أصداء “كرم” الشاغوري لم تبلغ مسامع الزغرتاويين وقد صار لا بدّ من تجهيز المستشفى الحكومي في المنطقة، التي لا تحتاج إلى أكثر من مليون دولار.
ويكفي أن يتبرّع ابن مزيارة أيضاً، دونالد العبد بمبلغ بسيط مقارنة بثروته، لمصلحة المستشفى الحكومي في المنطقة، لتكريس الفرق.
النائب عبد الرحيم مراد مؤسس ورئيس “الجامعة اللبنانية الدولية” التي تأسست في البقاع ثم توسّعت إلى بيروت وصيدا وطرابلس والنبطية، ثم جديده المتن، رياق، عكار، صور، لتقفز نحو الخارج، اليمن والمغرب وموريتانيا، والسنغال، والإمارات العربية المتحدة…لا تزال “عطاءاته الكورونية” دون مستوى قدراته المالية.
إذ أعلن نجله، الوزير السابق حسن مراد في تغريدات متتالية له عن “وضع بتصرّف الصليب الأحمر اللبناني أربع سيارات من فوج الغد الصحي مع فريق إسعاف كامل لخدمة أهالي البقاع الغربي والأوسط وراشيا” وعن “تقديم دواء التعقيم للسجون في محافظة البقاع وتزويد إدارتها بالمعقمات اللازمة”.
أمّا رجل الأعمال، المقاول قاسم حمود الذي وصفه يوماً أحد السياسيين، بأنّه “أقوى من الدولة”، والذي “تنغل” شركته “مؤسسة حمود للمقاولات” في تلزيمات الدولة، ابن مجدل عنجر، فيعرف جيداً معاناة أهالي البقاع من المستشفيات الحكومية، وهو الذي سبق له أن جرى تكريمه من مستشفى شتورا، ويُنتظر أن “يتكرّم” بدوره لدعم شبكة الآمان الاستشفائية في المنطقة.