على الرغم من تصريحات وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر ونفيه لكلّ ما يُتداول فيه عن عتمة شاملة مطلع العام 2021 المقبل، فإنّ المشهد الكهربائي يمكن اختصاره كالتالي: لبنان بات مفتقراً إلى رفاهية الوقت لإبرام عقود جديدة لاستيراد الفيول أويل، وذلك مع علم السلطة منذ أشهر بانتهاء العقد مع شركة “Sonatrach” الجزائرية، لكن من دون أن تُحرّك ساكناً.
هذا الأمر يبرهن صراحة “سكيزوفرينيا” الاستراتيجيات والخطط التي جرت العادة أن تؤدّي إلى نتائج عكسية بدلاً من الإنجازات المنتظرة. ردّد غجر مراراً أنه وعملاً بالعقد، فللبنان كميات من الفيول لم يستلمها بعد. وفي حال عدم التجديد مع “سوناطراك” يمكن للأخيرة أن تلزم لبنان بدفع قيمة الكميات المتوجّبة بحسب العقد، وأخذها، ما يعني أنّ لبنان يملك مخزوناً من الفيول أويل يكفي لعام بانتظار كلمة الفصل لإدارة المناقصات التي تدرس دفتر شروط المناقصة المنتظرة حتى تبدي ملاحظاتها.
إلى حين حسم هذا الأمر، أمامنا أسابيع قليلة قبل 31 كانون الأوّل 2020، تاريخ انتهاء أَجَل العقد الموقّع مع الشركة الجزائرية لشراء الفيول أويل لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، بفئتيه Grade A وGrade B. وحتّى اللحظة، لا مناقصة لتأمين الفيول في الأفق. وللهروب من سيناريو الظلمة الشاملة، سيكون أمام وزارة الطاقة حلّ من ثلاثة:
– إما أن تلجأ إلى Spot Cargo لشراء الفيول بطريقة “غبّ الطلب”.
– أو تتّخذ القرار الأكثر جرأةً في تاريخها، وهو العودة إلى الغاز الطبيعي لإنتاج الكهرباء بما أنه يتيح الإنتاج بالكلفة الأقل عالمياً، كما أنّ هذه المادة متوافرة بكثرة من حولنا.
– وإما أن تكون اللامركزية أو الفدرالية الكهربائية أو أياً كانت التسمية، هي الحل الدائم، وهنا يكون واجباً الاقتداء بـ”كهرباء زحلة” (على الرغم من الأسئلة التي تحيط بها).
هذا الأمر يبرهن صراحة “سكيزوفرينيا” الاستراتيجيات والخطط التي جرت العادة أن تؤدّي إلى نتائج عكسية بدلاً من الإنجازات المنتظرة. ردّد غجر مراراً أنه وعملاً بالعقد، فللبنان كميات من الفيول لم يستلمها بعد
وفي ظلّ المحاولات الحثيثة للفلفة قضية الفيول، مخلوطاً كان أم مغشوشاً أو مضروباً، الذي تسبّب بـ 70% من عجز الكهرباء (على أساس أنّ العجز التقني يبلغ 30% فيما كلفة استيراد الفيول تكبّد لبنان باقي القيمة)، يبدو خيار اعتماد الغاز الطبيعي فرضية أكثر من مستحيلة لافتقار السياسيين المعنيين إلى الجرأة التي يتطلّبها قرار مماثل من شأنه أن يطيح بـ”كراسيهم”. بما أنّ الإبقاء على الفيول أويل كلّف الخزينة العامة نحو 50 مليار دولار، مع ما يعنيه ذلك من تنفيعات وفساد …
ترجّح مصادر مطّلعة لـ”أساس” أن “تتّجه الوزارة إلى إجراء مناقصة من خارج إدارة المناقصات مع مراقبة لاحقة من ديوان المحاسبة، بما أنّ دفاتر الشروط التي تحال إلى إدارة المناقصات، تقبع في أدراجها لأشهر طويلة”.
ولأنّ قوانين إدارة المناقصات تتطلّب تطويراً. لذا لا ضير من أن تجري المديرية العامة للنفط المناقصة بما أنها المعنيّة بتأمين المحروقات إلى السوق اللبنانية كما إلى مؤسسة كهرباء لبنان. وفي حال فشل إجراء مناقصة لن يكون أمام الوزارة سوى اللجوء إلى spot cargo، خصوصاً ّأنّ مادة الفيول أويل بالمواصفات اللبنانية نادرة الوجود حتى في الدول النفطية. هذا إن لم نأخذ في الحسبان طبعاً إمكانية نضوب دولارات مصرف لبنان وتوقفه عن دعم الكهرباء. فعجز مصرف لبنان المدولر يعني عجز الإنتاج الكهربائي، وأخيرا العجز في تأمين المحروقات.
في ظلّ كلّ هذه المعمعة، لا بدّ من استرجاع فترة تفجير ملف الفيول المغشوش، الذي لا يزال قراره القضائي ظنياً. ولا بدّ أيضاً من التساؤل عن جدواه تحديداً، ولا سيما أنّ دولتنا المفلسة لا خيارات أمامها.
وإذا كان البعض يظن أنّ التخلّص من عقد “سوناطراك” كان ضرورياً بما أنّ الطرف الثاني الموقّع لا يمثّل الدولة الجزائرية بل شركة تجارية خاصة مسجّلة في إحدى الملاذات الضريبية، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الخُزعبلة تشوب كلّ عقود الطاقة دون استثناءات. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، عقد البواخر التركية وعقد “روسنفت” لاستثمار منشأتَي طرابلس والزهراني، والعقدان موقّعان من قبل شركات غير الشركة الأمّ.
في ظلّ كلّ هذه المعمعة، لا بدّ من استرجاع فترة تفجير ملف الفيول المغشوش، الذي لا يزال قراره القضائي ظنياً. ولا بدّ أيضاً من التساؤل عن جدواه تحديداً، ولا سيما أنّ دولتنا المفلسة لا خيارات أمامه
ولمن فاتَته تفاصيل ملف الفيول المغشوش، فإن المشكلة سببها الفيول أويل المحمّل على متن سفينة “Baltic”، الذي لم يكن مطابقاً للمواصفات اللبنانية، فنسبة الترسّبات فيه تجاوزت الـ4%K في حين أنّ الحدّ الأقصى يجب ألا يتعدّى 1%. يومذاك عرضت “سوناطراك” على الدولة اللبنانية الاحتفاظ بالشحنة الأولى من دون أيّ بدل مادي لاستخدامها لمعملي الذوق والجية الحراريين، اللذين بوسعهما حرق هذه النوعية من الفيول أويل على عكس البواخر التي تتطلّب النوعية المنصوص عنها في المواصفات لإنتاج الكهرباء. رفضت الدولة. فأبدت “سوناطراك” استعدادها لاستبدال الشحنة بأخرى، فانتظرت سفينة استعادة الحمولة في المياه اللبنانية قرابة الشهر. وبعد كلّ التجاذبات السياسية، قال القضاء كلمته الظنية معتبراً أنّ “سوناطراك” تتحمّل المسؤولية القانونية الكاملة كونها “أوكلت أمر تنفيذ العقد الموقّع مع الدولة اللبنانية إلى شركات تعاقدت معها باطناً (ZR Energy) وخلافاً لمضمون العقد وأحكام القوانين الإدارية اللبنانية، التي تمنع مثل هذا التعاقد في العقود الإدارية ما لم يكن منصوصاً عنها بشكل واضح وصريح”.
إقرأ أيضاً: فيول مغشوش أو غير مطابق للمواصفات: الجواب عند سوناطراك
لكن وقبل صدور القرار الظني، راسلت شركة “Sonatrach Petroleum Company” وزير الطاقة ريمون غجر لإبلاغه بعدم رغبة الشركة تجديد العقد لاستيراد الفيول أويل لصالح “مؤسسة كهرباء لبنان” متمنيةً للدولة اللبنانية التوفيق في عقودها المستقبليّة. وقد ارتكز الكتاب إلى فشل وزارة الطاقة في اتخاذ أيّ إجراء او إصدار أيّ بيان علنيّ للحفاظ على سمعة “سوناطراك”، خصوصاً بعد الحملة الشرسة التي طالتها وتناولت مصداقيتها… هكذا، أحكمت”سوناطراك” قبضتها على الدولة اللبنانية في أكثر ملف يخنقها لصعوبة تأمين مادة الفيول أويل مع استحالة الانتقال إلى الغاز.
استعجلت الدولة اللبنانية للتخلّص من “سوناطراك” من دون أن تبحث في البدائل، وهو ما يفرض الفدرالية الكهربائية كطرح معقول خلال الفترة المقبلة. فسوناطراك كانت تؤمّن للبنان نحو 70? من الفيول المستخدم أيضاً في بواخر Karpowership. من دون هذه المادة، تكون البواخر التركية مجرّد سفن عائمة غير منتجة للكهرباء مع ما يكبّده ذلك من أكلاف تتراكم على الخزينة العامة (حتي في حال توقف البواخر عن العمل كما ينصّ العقد بما أن الخطأ لبناني). هكذا لن يكون من بديل إلا أن تنتج كلّ منطقة كهرباءها. وبالانتظار، فالعيون شاخصة نحو التجديد لـ”كهرباء زحلة” التي ينتهي عقدها أواخر العام الجاري.