في حمأة الأزمات المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان، حلّت أزمة فيروس كورونا، ثم تبعها إعلان التعبئة العامة وإقفال مؤسّسات القطاع العام والخاص والمصارف على السواء، فأُصيبت البلاد بمزيد من الشلل وازداد الوضع تعقيداً. هذا الأمر ألزم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قبل خمسة أيام، بإصدار تعميمه الوسيط رقم 547، الذي قيل إنّه لمساعدة المقترضين المتعثرين، لكنّه حمل في طياته جملة من علامات الإستفهام والأسئلة بدأت بتوقيته ولم تنتهِ بمحاوره ولا بطبيعة المستفيدين منه.
مراقبون كُثُر بُهتوا من اندفاعة سلامة المستجدّة لمساعدة عملاء المصارف في الحصول على قروض تغطّي تعثّر 3 أشهر، وبفترة تقسيط تمتدّ إلى خمس سنوات، فيما أموال جزء كبير من اللبنانيين محتجزة في المصارف نفسها. بعضهم أبدى اعجابه بثقة سلامة الزائدة بنفسه، لناحية افتراضه المسبق بأنّ الأزمة سيكون عمرها 3 أشهر فقط (موضوع التعميم). إلاّ أنّ التدقيق في التعميم والقراءة بين سطوره، تكشف للمقمّش دهاء سلامة وحنكته في استدراج المصارف لحضّها على “قول الصدق” في شأن تسليفاتها، من خلال تبيان “داتا” الأزمة ومدى تعثّر العملاء.
إقرأ أيضاً: لماذا رفضت المصارف تعميم سلامة عن قروضٍ بلا فوائد؟
أكثر من مؤشّر ورد في التعميم، يبوح صراحةً بعدم ثقة الحاكم بالمصارف. ربّما بسبب تجارب سابقة راكمها في علاقته معها وفي علاقتها مع عملائها (سوابق القروض السكنية). ربما أفتى الحاكم بهذا التعميم بغية استطلاع حجم تأثّر العملاء والمصارف بالأزمة ككل. ولا عجب من أن يستخدم بيانات “بالونه الحراري” هذا، في أيّ خطّة مستقبلية تخصّ عمليات الدمج أو أي تدبير آخر يخصّ المصارف. في حين قرأ البعض في التعميم استثماراً سياسياً للحاكم (لرفع رصيده في السباق إلى الانتخابات الرئاسية)، لكن من المؤكّد أنّ الحسم في هذا الاتجاه قد يكون سابقاً لأوانه.
التعميم حدّد محاور الاقتراض بثلاث: تسديد أقساط القروض، دفع رواتب الموظفين والعاملين، وأخيراً تغطية الحاجات الانتاجية أو التشغيلية… فاتحاً المجال أمام كل عميل للاستفادة من المحاور الثلاثة في آن (مثلاً: مالك مصنع عليه قرض سكني، ولم يدفع رواتب موظفيه، ومقصّر بمصاريف المصنع التشغيلة)، لكن من هم فعلاً المستفيدون الحقيقيون؟
دعا تعميم سلامة المصارف إلى منح “قروض استثنائية” بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي، لعملائها الذين “يستفيدون من قروض بأنواعها كافة… ولا يستطيعون تسديد مستحقاتهم لثلاثة أشهر (آذار، ونيسان، وأيار) بسبب الأوضاع الراهنة”. إذاً، حصر الحاكم صفة “التعثّر” بكلّ من استفادة من قرضٍ في السابق فقط، من دون أن يأتي على ذكر العميل الملتزم، الذي لم يكن بحاجة إلى قرض من قبل، لكنّه تعثّر الآن بفعل الأزمة.
هذا الصنف من العملاء لم يشمله التعميم By the book. بعض المراقبين يؤكّدون أن لا مانع من إصدار مذكرة لاحقة تقضي بذلك. وهذا يؤكد أنّ الهدف هو تصنيف تسليفاتهم الخاصة وليس مساعدة أيّ متعثّر، لأنّ المصارف تميل، غالباً، إلى إخفاء حقيقة التسليفات، وإلى رفع تصنيفها (1 يعني “تسليفات آمنة”… إلى 4 يعني “متعثّر بالكامل”), لأنّ التسليف المتعثّر يكبّد المصرف مؤناً لتغطية قيمتها، تُقتطع من حجم الأرباح. وغالباً ترفع المصارف تقاريرها (فصلياً، نصف سنوياً، ونهاية السنة) إلى مصرف لبنان، بـ”حقائق” غير دقيقة.
سلامة يراهن على تهافت المقترضين المتعثّرين إلى مصارفهم للإستفادة من هذا التعميم، كما يراهن على تهافت المصارف بدورها إليه، لتبلّغه طوعاً بكل ما لديها من معلومات عن تسليفاتها
وعلى خلاف التعاميم التي تصدر عن مصرف لبنان، حاول سلامة التسويق لتعميمه الأخير فوق العادة. ضجّت به وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، كما تحدّثت عنه الصحف وأطلّ هو تلفزيونياً في اتصال هاتفي تلفزيونيّ ليتحدث عن حسناته. أراده أن يصل إلى المقترضين المتعثرين كلّهم ليستفيدوا منه، خصوصاً أنه بفائدة صفر. لكن بشرط أن يكون العميل المتعثّر “بحاجة القرض لتغطية المستحقات” فقط، على أن تتحمّل المصارف مسؤولية التحقّق من صدق هذه الحاجة وتحتفظ بالمستندات المتعلّقة بالقروض (بيانات مالية، عقود، جداول تسديد… إلخ) تحت طائلة إلزام المصرف المخالف بدفع جزية 15 % من قيمة القرض، وإيداع احتياطي يمثّل ضعفي قيمة القرض طوال فترة تقسيطه، وكلّ ذلك بإشراف “لجنة الرقابة على المصارف” المولجة بالتدقيق في كل المستندات وفي أيّ وقت.
سلامة يراهن على تهافت المقترضين المتعثّرين إلى مصارفهم للإستفادة من هذا التعميم، كما يراهن على تهافت المصارف بدورها إليه، لتبلّغه طوعاً بكل ما لديها من معلومات عن تسليفاتها، التي يَفترض أن تكون بأغلبها متعثرة خلال الأشهر الثلاثة التي يذكرها التعميم (العميل لا يستفيد من التعميم إلا إذا كان قرضه مصُنّف متعثراً). ولما لا؟ فالأمر بمثابة “استطلاع مدفوع”، بنيران “التعميم” الجديد، فرصته سانحة أمام المصارف لتبييض صفحة تسليفاتها المتعثّرة من جيب المصرف المركزي، بحجّة الأزمة، لأنّ التعميم يتعهّد بسداد قيمة كلّ قرض تمنحه المصارف للمتعثّرين (غير نقدي طبعاً).
لكنّ التعميم تعتريه ثغرة. فالدفع إلى المصارف سيبدأ بعد نهاية الشهر الثالث بشهر (نهاية حزيران) وهي مدّة طويلة في عمر الأزمة التي تشهد متغيّرات كلّ يوم. قد تفضّل المصارف ألاّ تلتزم بالتعميم وأن ترفض منح القروض لعملائها بحجة عدم توفّر السيولة أو هرباً من فضح حقيقة بياناتها. خصوصاً أنّه غير ملزم وعلى مسؤوليتها. أضف إلى ذلك أنّ مهلة الشهور الثلاث هامشية، وقد لا تستأهل، في نظر المصارف، هذا العناء كلّه طالما أنها تُختصر بمقولة “من دهنو سقّيلو”.
*ساهم “خبير المخاطر” الدكتور محمد فحيلي بتقديم توضيحات تقنية تخصّ التعميم، لكتابة هذا النصّ، فوجب شكره.