“مصرف لبنان ليس هو الدولة ولا يمكن إلقاء اللوم عليه في كل شيء”. بهذه الجملة أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مقابلة مع محطة Arab news، ما نقلته وكالة “رويترز” قبل أسبوع عن مصادر في المصرف، تقول إنّ الأخير لن يستمرّ في تقديم الدعم على القمح والمحروقات والأدوية. لا شكّ أنّ هذا الواقع سيرخي بظلالٍ كارثية على كاهل المواطنين، فالكارثة قد تبدأ بربطة الخبز ولا تنتهي بأتفه سلعة كمالية بسبب ارتفاع ثمن المحروقات (البنزين، المازوت، والغاز): عصب كل شيء في الحياة وفي التجارة وفي الصناعة.
إقرأ أيضاً: وقف “المركزي” لدعم السلع الحيوية: 3 أشهر قبل الكارثة
الدعم الذي يقدمه مصرف لبنان بموجب التعميم رقم 530 منذ 30 أيلول 2019، يتمثل بتأمين الدولار على السعر الرسمي (1507 ليرات لبنانية). وبالتالي فإنّ وقفه يعني أنّ المستوردين والتجار سيكونون ملزمين بتأمين فاتورة استيرادهم من “السوق السوداء” طالما أنّ المصارف تمتنع عن مدّهم بالدولارات. السلع كلها ستعتمد على سعر الدولار في هذه السوق والبالغ اليوم نحو 7500 ليرة لبنانية، ما يعني أيضاً أنّ كل 1500 ليرة من ثمن كل سلعة سيتحوّل تلقائياً إلى 7500 ليرة… وهذا إن توقّف سعر الصرف عند هذا الحدّ.
مصرف لبنان سبق له أن كشف قبل أشهر قدرته على تقديم الدعم للدواء لنحو سنتين إضافيتين، ما الذي تبدّل اليوم؟ ربّما هو ضغط سياسي أو شأن آخر يخص المصرف المركزي لم يفصح عنه
نظرياً، يمكن القول إنّ ربطة الخبز سيصبح سعرها 6350 ليرة بدل 1500 ليرة، وصفيحة البنزين سيقفز سعرها من 24 ألف إلى 102000 ليرة، أما صفيحة المازوت قسيصبح سعرها 68 ألف بدل 16 ألف ليرة، وجرّة الغاز سيزداد سعرها من 15000 ليرة إلى 63750 ليرة. أما في الأدوية فالأمثلة كثيرة ولا تُحصى، لكن يمكن الاستدلال إلى ذلك من خلال سعر علبة البنادول (مسكن الأوجاع الشائع) الذي يبلغ سعرها اليوم 3500 ليرة وستمسي بـ14875 ليرة، من دون الخوض بأنواع حليب الأطفال المدعومة لعمر السنة والتي سيقفز سعرها من 12 ألف إلى 59925 ليرة. كل هذه الأسعار نظرية، لكن في الواقع فهي مرشحة أن تزيد أكثر بقليل بسبب احتساب بعض الأكلاف الإضافية عليها مثل النقل والمواد الأوّلية المكوّنة لها.
يقول نقيب الصيادلة غسان الأمين في اتصال مع “أساس” إن “خطر رفع الدعم لن يتوقّف على وجود الدواء وسعره أو على عمل الصيدليات، وإنما سيطال البلد برمّته. فنحو 63% من الشعب اللبناني مضمون في مؤسسات ضامنة مثل الصندوق الوطني أو تعاونية موظّفي الدولة أو مؤسسات شبيه خاصة بالسلك العسكري. وقف الدعم سيطالها أيضاً وسيرتّب أعباءً كارثية على كاهل الدولة نفسها، وليس على المواطن وحده، لأنّها لن تعود قادرة على شراء الدواء لهؤلاء أيضاً”.
الأمين يعتبر أنّ مصرف لبنان سبق له أن كشف قبل أشهر “قدرته على تقديم الدعم للدواء لنحو سنتين إضافيتين، ولا أعرف ما الذي تبدّل اليوم؟ ربّما هو ضغط سياسي أو شأن آخر يخص المصرف المركزي لم يفصح عنه. ربّما هو إنذار يحاول الحاكم رياض سلامة أن يطلقه اليوم، لكن الأكيد أنّ وقف الدعم بهذه الطريقة سيكون أمراً مستحيلاً”. يضيف الأمين: “كلفة دعم الدواء السنوية هي مليار دولار، وبالتالي فإن الحلّ يكون في إجراء خطوات تدريجية مثل تخفيضها إلى النصف مثلاً من خلال الاستغناء عن بعض الأدوية لصالح أخرى محلية، لكن هناك أدوية يستحيل وقف استيرادها خصوصاً تلك الخاصة بالأمراض المزمنة والمستعصية… وإلاّ فنحن مقبلون على خراب البلد أو على انتحار جماعي، حيث الناس ستقتل بعضها البعض في الشوارع”.
صيدلاني يملك صيدلية في جبل لبنان، أكد في اتصال مع “أساس” أنّ “الزبائن لم يصدّقوا حتّى الآن، وما زالوا يتصرّفون كالمعتاد”، سألناه إن كان الطلب على الأدوية قد زاد بسبب هذه الأخبار فقال: “أغلب الأدوية مقطوعة أصلاً وبالتالي لا إمكانية لملاحظة الفرق. نطلب 5 أو 10 أو 20 علبة من الدواء الفلاني فيرسلون لنا علبة واحدة. من أين لنا أن نلمس التغيّر في الطلب؟”.
قد يكون رفع الدعم قاسياً وظالماً، لكن لا مفرّ منه طالما أنه مقيّد بحجم احتياطات مصرف لبنان المتواضعة. مصرف لبنان الذي أعطى من خلال الدعم ومنذ انطلاقة الثورة تقريباً، فرصة للسلطة السياسية كي تقوم بواجباتها، لكنها فشلت في إعادة الاقتصاد الوطني إلى سكة الخلاص، بل فشلت أيضاً في أكثر واجباتها تواضعاً وهي وقف التهريب المستنزف لهذه الاحتياطات، لكن “لا حياة لمن تنادي”
صيدلاني آخر هو مدير مبيعات في واحدة من أكبر شركات الأدوية في لبنان، قال لـ”أساس” إنّ شركات الدواء “لا تصدّق هذا الكلام ولا تستوعبه. بل لا تريد أن تصدقه أبداً، لأنّ الأمر خطير جداً ويهدّد وجود الشركات نفسها. رفع الدعم سيضطر بعضها إلى وقف العمل وصرف الموظفين والانسحاب من السوق اللبناني، لأنّ مهمة الحصول على الدولارات شهرياً من السوق السوداء بحجم استيرادها الكبير للدواء، سيكون أمراً مستحيلاً”.
يكشف هذا المدير أنّ الكارثة ستحلّ على مرضى الأدوية المستعصية والمزمنة، نظراً لسعرها الباهظ. فالوكيل في هذه الحالة سيعجز عن تأمينها، وبالتالي فإن مرضى كثر “سيموتون بسبب فقدان الدواء من السوق”. ويضيف أنّ بعض الأدوية يمكن اعتماد بدائل عنها (جنيريك) من أجل اختصار لائحة الأدوية المدعومة وتقزيمها، “لكنّ ذلك سيكون بمثابة سلاح ذو حدّين، لأن الدعم إذا طال دواءً واحد بدل 3 أو 4 أدوية مشابهة، سيخلق ضغطاً كبيراً على استيراده مع تحوّل المرضى المحتاجين إليها إلى صنف واحد منها… وبالتالي فالنتيجة ستكون واحدة”، ثم يختم بالقول”: “لا أبالغ إن قلت إنّ وقف الدعم سيكون زلزالاً يصيب قطاع الأدوية”.
مالك أحد المطاحن في منطقة بيروت، يكشف لـ”أساس” أنّ “سعر طن القمح الأوكراني المخصص للخبز هو 230 دولاراً، تدفع المطاحن من ثمنه 15% على سعر السوق، أي نحو 550 ألف ليرة، وإذ رُفع الدعم سيرتفع سعر الطنّ إلى 1.725.000 ليرة لبنانية”، ويضيف أنّ “هذا القرار سيدفعنا إلى زيادة الاستثمارات في مطاحننا، سنضطر إلى رفع رأس المال من أجل استيراد الكميات نفسها وهذا أمر صعب في ظلّ الظروف الاقتصادية الراهنة”.
قد يكون رفع الدعم قاسٍياً وظالماً، لكن لا مفرّ منه طالما أنه مقيّد بحجم احتياطات مصرف لبنان المتواضعة. مصرف لبنان الذي أعطى من خلال الدعم ومنذ انطلاقة الثورة تقريباً، فرصة للسلطة السياسية كي تقوم بواجباتها، لكنها فشلت في إعادة الاقتصاد الوطني إلى سكة الخلاص، بل فشلت أيضاً في أكثر واجباتها تواضعاً وهي وقف التهريب المستنزف لهذه الاحتياطات، لكن “لا حياة لمن تنادي”. هذا الواقع أوجد الحجة المنطقية أو “العذر الشرعي” الذي سيمكّن المصرف المركزي من وقف الدعم براحة ضمير… وإلى حينه فلتتحمل السلطة والعهد مسؤولياتهما وليواجها سخط الناس وغضبها.