رسائل قمّة جدّة.. أبعد من حجم المشاركين..

مدة القراءة 7 د


لو كنت مكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزرت الرياض بعد أنقرة. ربّما لن يفعل ذلك بوتين. لكن ما يستطيع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن يفعله هو توجيه الدعوة لوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى أن يشارك في القمّة التركية الروسية المرتقبة ليكون اللقاء ثلاثياً تتوحّد فيه الجهود التركية السعودية في الحوار مع الرئيس الروسي، في ضوء نتائج التحرّك السعودي الأخير في مؤتمر جدّة والبيان الختامي الصادر عن المجتمعين هناك.
تنسيق وتوحيد الجهود التركية السعودية لإقناع أطراف الصراع في القرم بالتهدئة وتسهيل العودة إلى الحوار السياسي هما ما ينتظرهما ويعوّل عليهما الكثير من العواصم والدول اليوم. أنقرة نتيجة تمسّك القيادات الروسية والأوكرانية بأهميّة دورها كوسيط. والرياض بعدما تبنّت “استراتيجية توازن” لا يمكن لموسكو وكييف أن يتجاهلاها أو يفرّطا بها. فهل نرى خطوات دعم وتشجيع إقليميَّين أمميَّين بهذا الاتجاه؟ وهل يقرأ سيّد الكرملين ما جرى في جدّة بشكل مغاير، خصوصاً أنّ شركاء “شنغهاي” كانوا بين الحضور باستثناء إيران؟

ماذا جرى في جدّة؟
أسفر اجتماع جدّة بحسب البيان الختامي عن “الاتفاق على مواصلة التشاور الدولي بما يسهم في بناء أرضية مشتركة تمهّد الطريق للسلام”.
على عكس ما كان يتوقّع البعض لم تتجاهل موسكو ما جرى في جدّة. فهي تدرك أنّ الرياض كان لها موقفها الواضح والعلني في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا. ونحن نعرف أنّ نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف رمى الكرة في ملعب الغرب والولايات المتحدة الأميركية بقوله  إنّ “الاجتماع في جدّة انعكاس لمحاولة الغرب مواصلة الجهود الفاشلة وغير المجدية” لحشد الجنوب العالمي من أجل دعم موقف زيلينسكي. لكنّ القيادة الروسية تدرك تماماً أهميّة الدور السعودي الإقليمي ومتطلّبات المرحلة المقبلة، في مسألةٍ دخلت الرياض على خطّ الوساطة فيها، خصوصاً إذا ما كانت موسكو راغبة حقّاً في حماية مسار التقارب والتنسيق بينهما في ملفّات استراتيجية عديدة وضرورة عدم تعريض هذه العلاقة للخطر.

الحراك السعودي هو فرصة لتكوين مركز ثقل إقليمي رابع قادر على حماية مصالح دول المنطقة وما تقوله وتريده

وصف وزير الخارجية الأوكراني ديميترو كوليبا مشاركة الصين في قمّة جدّة بـ”الاختراق الفائق والنصر التاريخي”. تحاول الصين تسجيل مواقف مختلفة عن روسيا في ملفّات إقليمية عديدة. وتحاول واشنطن من ناحيتها استرداد ما فقدت من مواقع وأحجار في المنطقة حيث نجحت روسيا في تقديم نفسها طرفاً ضامناً للتوازنات الجديدة فيها. لكنّ لعبة التوازنات الجديدة هذه تتمّ على حساب العديد من الدول الإقليمية الفاعلة والمؤثّرة ومصالحها وأمنها. وهذا بين ما يساعدنا في الإجابة على سؤال: ما الذي أنجزته جدّة؟

عارضت دول مجلس التعاون الخليجي المحاولات الأميركية لفرض مواقف وسياسات لا تريدها المنظومة الخليجية. وهي لم تتردّد أيضاً بتذكير موسكو أنّ العلاقة مع الصين لها خصوصيّاتها، وأنّ ما يقرّب هذه المنظومة العربية من روسيا لا يعني بالضرورة أنّها ستتحوّل إلى حليف لموسكو في مواجهة السياسات الأميركية. إذاً الحراك السعودي هو فرصة لتكوين مركز ثقل إقليمي رابع قادر على حماية مصالح دول المنطقة وما تقوله وتريده. نجحت روسيا في جمع بعض جوائز الترضية الإقليمية، لكنّ الرسالة السعودية هي تذكير للغرب ولروسيا أيضاً بالتخلّي عن محاولات التعامل مع الإقليم من منطلق الهيمنة على القرار والسياسات، وهذا هو الشقّ الآخر في مضمون رسائل جدّة.

قناعة أنتجت الوساطة السعودية
الطريق التي اختارتها السعودية منذ عامٍ ونصف عام تقريباً تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، هي التي فتحت الأبواب أمام مؤتمر جدّة ليخرج على هذا النحو أوّلاً، وهي التي سهّلت للرياض فرص التحرّك السياسي والدبلوماسي الواسع بالتنسيق مع العواصم المقبولة والناشطة باتجاه إيجاد الحلّ السلمي الذي بات مطلب الكثيرين ثانياً.
ما يدفع السعودية إلى الدخول على خطّ الوساطة في القرم هو قناعتها بظهور جملة من المتغيّرات الإقليمية والدولية وولادة لعبة معادلات جديدة تفتح الطريق أمام نظام عالمي مغاير. سبب كلّ ذلك في الظاهر هو الحرب في القرم وتفاعلاتها وارتداداتها المتزايدة. لكنّ الدافع الحقيقي هو حجم الأخطار المحدقة التي باتت تهدّد أسس التوازنات الإقليمية والدولية القائمة وتطال الجميع سياسياً وأمنيّاً واقتصادياً.

بناء عالم جديد لا يكون عبر هدم وتدمير العالم الحالي وتهديد الركائز من خلال نسفها وتعريض ما شُيّد بهذه الطريقة التي تمسّ الأمن والاستقرار والاقتصاد العالمي مهما كانت السلبيات، بل من خلال التطوير والتحديث السلمي وأمام منصّات الحوار والتفاهم. التعدّدية القطبية باتت وضعية لا مفرّ من قبولها وتبنّيها، شئنا أم أبينا. اللجوء إلى القوّة أو التلويح باستخدامها لم يعد مسألة ضيّقة محدودة تعني المتخاصمين والمتنازعين، بل ستكون لها ارتداداتها الاقتصادية والأمنيّة والحياتية على الكثير من دول وشعوب العالم، وهذا ما أكّده 18 شهراً من التأزّم والقتال في القرم. وهذا بين ما يشرح أهداف مؤتمر جدّة.
لم تحدث المواجهة الروسية الأميركية المباشرة بعد. لكنّ ذلك لا يعني أنّها لن تحدث على الرغم من الحذر الشديد في الجانبين. التوتّر بين موسكو وواشنطن قائم في أكثر من بقعة جغرافية وتتّسع رقعة انتشاره يوماً بعد يوم. نظرة سريعة إلى عدد الأزمات التي تفجّرت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا تؤكّد لنا أنّ الصدام قد لا يتوقّف وينتهي عند ما يحدث في القرم، وأنّ التهديدات والمخاطر أكبر بكثير من المتوقَّع.
عندما تقرّر الرياض أن تتحرّك باتجاه تنظيم قمّة دولية من هذا النوع يجلس تحت سقف قاعتها أكثر من طرف على خلاف وتباعد مع العديد من الأطراف الأخرى. وعندما تقرّر الدول المشاركة تلبية الدعوة السعودية إلى منصّة من هذا النوع، تكون الرسالة أبعد وأهمّ من أن تكون خطوة كلاسيكية عاديّة. مبادرة جدّة خطوة سياسية دبلوماسية ملعوبة باحتراف وخبرة: توجيه رسالة دولية بهذا الحجم لطرفَي النزاع لتلمّس بدائل وخيارات جديدة غير التصعيد العسكري ومحاولة إشعال جبهات إضافية، ثمّ محاصرتهما بخيار التوجّه نحو طاولة الحوار والتفاوض كفرصة وحيدة لإنهاء الصراع بعد الأضرار البالغة التي تسبّبت بها المعارك حتى الآن، والتحذير من الأخطار المحتملة وما قد يحمله استمرار التصعيد من ارتدادات أمنيّة واقتصادية وغذائية إقليمية ودولية، وضرورة الحؤول دون زيادة التوتّر وتوسيع رقعته وتعقيده أكثر ممّا هو معقّد، من دون أن نغفل هنا تحذيرات الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أنّ طبول الحرب النووية تدقّ مرّة أخرى. هذه كلّها بين إنجازات ورسائل قمّة جدّة.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: فرصة للسعودية والإمارات والمغرب

كيف ستتحرّك القيادة السعودية بعد انتهاء أعمال مؤتمر وتوصيات بيان ختامي يمنحها فرصة دبلوماسية وسياسية لا تقلّ قيمة وأهميّة عن خطوة جمع هذا الحشد أمام الساحل السعودي المطلّ على البحر الأحمر؟
طبعاً عدد المشاركين في مؤتمر جدّة مهمّ، لكنّ الأهمّ هو ما تمثّله وترمز إليه وما تعبّر عنه الكتلة المشاركة إقليمياً ودولياً. وجود الولايات المتحدة والصين والهند والبرازيل والمكسيك وتركيا والدول الأوروبية والعواصم العربية الفاعلة أمام طاولة جدّة، لا يعني بناء تكتّل أو تجمّع يتحوّل إلى منصّة روتينية تقليدية، بل هو فرصة تحوّله إلى مبادرة دعم للخطوة المقبلة المرتقبة من قبل الرياض، فكيف سيكون شكلها وبأيّ اتّجاه ستتقدّم ومع من ستفعل ذلك؟ السيناريو الأقرب في ضوء قرارات مؤتمر جدّة، وما دامت القيادات السياسية الأوكرانية والروسية متمسّكة بالوسيط التركي، هو التنسيق السريع بين أنقرة والرياض على أكثر من جبهة لإخماد جبهات القتال في القرم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…