تبدلت الصورة المرتقبة بعد انتهاء فترة السماح الممنوحة للدولة اللبنانية، والبالغة أسبوعاً من الزمن. الدولة التي علّقت دفع استحقاق سندات “اليوروبوندز” لشهر آذار 2020، والبالغة 1.2 مليار دولار، كانت تتوقع تنطلاق حملة رفع الدعاوى عليها من حملة السندات، أمام محاكم نيوروك، لكنّ وباء كورونا الذي حجر العالم أجمع في المنازل، وشلّ العمل في كافة القطاعات، ربما في زاوية ما، جنّب الدولة اللبنانية مؤقتاً موجة هذه الدعاوى.
الغرابة هي طبيعة العقود المنشأة لسندات “اليوروبوندز”. فهي تكاد تكون أقرب إلى عقود الإذعان. فهذا النوع من العقود يعني أنّ أحد الطرفين يقبل بكامل شروط وبنود العقد من دون أن يكون له الحق في تعديلها أو الإضافة عليها وليس له غير الخضوع الكامل لإرادة الطرف الثاني. بمعنى أنّ شروط الدائن تحتل المساحة الأوسع في العقد، بينما لا إفادة للمدين إلا حصوله على الأموال من خلال طرح السندات في الأسواق المالية، والحصول في مقابلها على الأموال.
إقرأ أيضاً: حسابات “الهيركت”: أكبر مما تظنون (2/2)
فمثلاً، يعتبر حاملو السندات أنّ الدولة متخلفة عن السداد في حال تخلفت عن دفع أصل الدين لأكثر من أسبوع أو سبعة أيام، أو تأخرت عن دفع فوائد هذه السندات خلال شهر من تاريخ الاستحقاق. كما أنّه يفترض موافقة 75 في المئة من حاملي السندات على قرار الحكومة إعادة هيكلة الدين العام أو جدولته.
في الشق القانوني، وبحسب دكتورة القانون الدولي والتحكيم ريان عساف، بعد تخلّف الدولة عن السداد، تقوم بتعيين مستشارين، مالي وقانوني، مهمتهما تحديد عدد الدائنين، وما يحملونه من سندات، والنسبة العائدة لكل واحد منهم، وهذا ما فعلته الدولة اللبنانية. وهما حالياً في طور إعداد المهمّة. وبعد الانتهاء من هذه المرحلة، يتمّ عادة دعوة الدائنين أو الممثلين عنهم، إلى طاولة مفاوضات، ليتم الاتفاق على مسار التفاوض، مدّته ومكانه وغيرها من النقاط.
في المبدأ، ومن الناحية اللوجستية، قد يكون أول اجتماع مع الدائنين في لبنان، للاتفاق على المسار القانوني لهذه المفاوضات. وكأيّ مفاوضات، يحاول الطرفان استغلال نقاط القوة التي يملكها كل منهما، لتعزيز موقعه وموقفه. فمثلاً الدولة اللبنانية تنطلق من نقطة قوة تتمثّل بصعوبة التنفيذ على أموالها لكونها دولة ذات سيادة تتمتّع بنوع من حصانة التنفيذ “immunité d’execution”، وحصانتها السيادية، التي تحول دون التنفيذ عليها، كأيّ شخص عادي. ما يعني أنّه حتّى لو فاز الدائنون بالدعاوى التي سيرفعونها عليها، قد يواجهون صعوبة في تنفيذ الأحكام.
تعتبر عساف أنّ الدولة اليوم تقف أمام احتمالات ثلاثة:
– أولها عدم التوصل لاتفاق مع الدائنين على إعادة الهيكلة، وهنا يتقدم احتمال تعرّض الدولة اللبنانية لموجة دعاوى شرسة من قبل الدائنين.
– ثانيها التوصل لاتفاق معهم، وغالباً ما يتم هذا الأمر ويمكن أن تصل إليه الدولة بالقدر الذي تُقدّم فيه ضمانات للدائنين، واليوم يتم الحديث عن إمكانية اللجوء إلى صندوق النقد الدولي في موضوع الأزمة الحالية، ومجرد وجود صندوق النقد هو أمر يريح الدائنين، كما سبق وحصل، في تجارب عدة، وتمّ الاتفاق على خيار إعادة الهيكلة.
– هنا الدولة أيضاً إمّا تصل لاتفاق إعادة الهيكلة مع جميع الدائنين، أو مع نسبة معينة منهم كما حصل على سبيل المثال مع الأرجنتين واليونان. هناك وافق عدد كبير من الدائنين على إعادة الهيكلة يومها، ولجأ القسم الرافض للتفاوض إلى رفع دعاوى على كل من الدولتين.
وتلفت عساف إلى أنّه بموجب سندات “اليوروبوندز” التي وقعتها الدولة اللبنانية، وكما جرت العادة فيما يتعلق بالسندات المقوّمة بالدولار، وجهة المحاكم التي ترفع أمامها دعاوى التخلّف عن السداد، تكون محاكم نيويورك. والأحكام الصادرة عن محاكم نيويورك تُعامَل في لبنان كحكم أجنبي، خاضع تنفيذها لشروط معيّنة ينصّ عليها القانون اللبناني. أمّا بالنسبة للتنفيذ خارج لبنان، وفي حالة الحجز على الأصول العائدة للدولة اللبنانية، فإنّ الأبنية العائدة للبعثات الديبلوماسية ممنوع الحجز عليها وفقاً للمعاهدات الدولية، وأيضاً هناك الذهب وطائرات الميدل إيست، التي تعود ملكيتها لمصرف لبنان وليس للدولة اللبنانية، وهذا أمر يصبّ لمصلحة الدولة اللبنانية في مجال المفاوضات.
الخلاصة أنّه قد لا يكون هناك مفرّ من تسديد الديون للدائنين، إن من الناحية القانونية، أو حتّى حرصاً على مصلحة الدولة، وحاجتها للحفاظ على سمعتها في الأسواق المالية العالمية
وتشير عساف إلى مسار التحكيم الذي اتّبعه الدائنون في قضية الأرجنتين، وهو التحكيم الدولي في قضايا الاستثمار أمام مركز International Centre for Settlement of Investment” Disputes (ICSID)”. وهو مركز أنشأه البنك الدولي، إختصاصه تسوية النزاعات المتعلّقة بالإستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى، وعادة ما توقّع الدول اتفاقيات فيما بينها تتضمّن إشارة إلى أنّه في حال النزاعات بين أيّ من الدولة ومستثمرين من رعايا الدولة الأخرى يتمّ اللجوء إلى مركز ICSID.
ولبنان وقّع 50 اتفاقية استثمار مع عدد من الدول، منها الدولة البريطانية (مع الإشارة على سبيل المثال إلى صندوق “أشمور” البريطاني)، تتضمّن اللجوء إلى ICSID. وأيّ قرار تحكيمي صادر في هذا الإطار يلزم لبنان بتنفيذه، وهو لا يحتاج إلى صيغة تنفيذية، بعكس الأحكام الصادرة من محاكم نيويورك، نظراً إلى أنّ لبنان وقّع على اتفاقية ICSID. وهذه قد تكون نقطة قوّة من الممكن أن يستخدمها الدائنون ضدّ لبنان.
وتعود عسّاف إلى موضوع مقاضاة اليونان والأرجنتين أمام محاكم نيويورك وأمام تحكيم من قبل الدائنين. فإنّ بعض الإجراءات التقنية التي اتّخذتها محاكم نيويورك قد دفعت بالأرجنتين، في العام 2010، إلى التخلّف عن السداد، مرة ثانية. لذلك عادت ولجأت إلى إعادة الهيكلة مرة أخرى مع نسبة 93 % من الدائنين. والباقون منهم سدّدت لهم أموالهم الكاملة. كذلك حصل مع اليونان، التي سدّدت للدول غير الموافقة على عملية اعادة الهيكلة.
الخلاصة أنّه قد لا يكون هناك مفرّ من تسديد الديون للدائنين، إن من الناحية القانونية، أو حتّى حرصاً على مصلحة الدولة، وحاجتها للحفاظ على سمعتها في الأسواق المالية العالمية.
وتختم عساف، بأنّ الدولة اللبنانية اليوم أمام خيارات صعبة، إن من ناحية الدعاوى أو التحكيم الذي قد يلجأ إليه الدائنون، أو حتّى لجهة قبولهم بإعادة الهيكلة أو رفضهم لها. وهذه تستوجب من الدولة القيام بالإصلاحات المالية والاقتصادية المطلوبة منها، لتأمين دفع المبالغ المطلوبة لهم. وتتأسف عساف على عدم استفادة الدولة اللبنانية من الوقت لتقوم بالإصلاحات التي طلبها منها مؤتمر “سيدر”، والتي كانت ستوفر على لبنان الكثير، وتجنّبه إلى حدّ ما الأزمة التي يعيشها. وتعتبر أنّه لم يبقَ أيّ حلّ اليوم إلاّ بمساعدة صندوق النقد الدولي، من خلال برنامج معيّن، يشكّل ضمانة للدائنين من جهة، ودعماً لعملية إعادة ضخّ الحياة في الاقتصاد الوطني من جهة أخرى.