ليس أمين عام حزب الله حسن نصرالله وحده ضحية روايته عن نفسه. كلنا ضحايا. ثمة نظام عالمي، بسياسته وعقائده ومنتجاته وتصوراته، أمعن فايروس كوفيد-١٩ طعناً في كبريائه وتشاوفه.
الجميع مدعو إلى محفل كوني للتواضع. قبيلة واحدة من البشر ترقص رقصة التخفّف من الانتفاخات حول نار الرعب من الغد.
ليس نصرالله وحيداً ويجب ألّا يكون.
لا أعرف مَن مِن المزايدين على حسن نصرالله في مسألة المقاومة، من جمهوره، كان ليكون قائداً أفضل لها ولقراراتها واستراتيجيتها وسياستها وحضورها وإعلامها ومعنوياتها.
نعم، من نكد الدهر، كما قال: “أن يأتي يوم بعد تلك الشيبة أنا أطل على التلفزيون حتى أجلس وأدافع عن حزب الله وأدافع عن المقاومة بموضوع عميل إسرائيلي، قاتل، مجرم، نحن قاتلناه، نحن هزمناه وقتل شهداءنا وأسر إخواننا وأخواتنا وعذّبنا واعتدى علينا…. هذا من نكد الدهر، فقط”.
من المعيب أن يعاب على نصرالله تهيّبه من ٧ أيّار جديد، وأن يتنبّه “لمصلحة البلد… ومصلحة الشعب اللبناني ومصلحة الدولة ومصلحة المقاومة”. من المعيب أن يعاب على نصرالله أنه يدرك مخاطر الانزلاق نحو التصادم مع الجيش والقوى الأمنية. ومن المعيب أن يعاب على نصرالله إدراكه، بل تعبيره العلني القاطع، عن حقيقة ميزان القوى مع أميركا في لبنان، وتقييمه الدقيق لتبعات التصادم معها واستخفافه بالدعوات الطفولية لإسقاط الطائرة التي أقلت الفاخوري.
من نكد الدهر أن يخرج نصرالله مساجلاً هؤلاء مدافعاً عن موقفه وموقف حزبه في مسألة تطال جوهر المقاومة وأصلها.
ومن نكد الدهر أن من يريد تطويع أميركا وإسرائيل والغرب والنظام المالي العالمي، يجد نفسه لا يقوى على تطويع “ناسه”، ومنهم جبران باسيل!
إقرأ أيضاً: الهرب من الحقيقة… في بيروت وطهران
لكنّها الرواية. الرواية التي سقطت. رواية “كما وعدتكم بالنصر دوماً أعدكم بالنصر مجدّداً“! الصرخة التي امتحنتها الوقائع بأقسى مما تحتمل الصورة. أي صورة. الصرخة المدوية في لحظة اغتيال عماد مغنية: ”إن أردتم هذه الحرب المفتوحة.. فلتكن هذه الحرب المفتوحة”!
ما دخل الكورونا؟
هل يذكر المزايدون على نصرالله يوم صفّقوا له حين قال متحدياً، كعادته: “موازنة حزب الله و معاشاته ومصاريفه وأكله و شربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران … تمام”.
لم يكن تماماً طبعاً، كما نعلم ونذوق اليوم، في ضوء انهيار القطاع المصرفي وانهيار الاقتصاد عموماً، على المستويات المالية والنقدية.
هل يذكر المزايدون تصفيقهم؟ أتى اليوم لاسترداد بعضٍاً من هذا الاستثمار الايراني الجسيم الذي كشفه نصرالله، وهو كان معلوماً. تسهيل إطلاق سراح عامر الفاخوري، بصفته رهينة أميركية، بموازاة إطلاق سراح رهينة أخرى محتجزة في إيران منذ العام ٢٠١٨ كجزء من إجراءات بناء الثقة مع واشنطن!
ليس سرّاً أنّ أميركا تستغلّ أزمة الكورونا لتطويع إيران أكثر. وليس سرّاً أنّ الخارجية الأميركية، في بيان معلن في 10 آذار الجاري اشترطت لللسماح بحصول إيران على أيّ معونات دولية، أن تُطالب إيران بالإفراج عن الايرانيين مزدوجي الجنسية الذين تحتجزهم أجهزة أمن النظام هناك!
وليس سرّاً أنّ إيران وصلت بها أزمتها إلى طلب كامل حصتها من صندوق النقد الدولي وهي 5 مليارات دولار لتمويل مكافحة وباء الكورونا. ليس عيباً أن تطلب إيران ذلك. فهذا حقها كشريك مع الصندوق. كما ليس عيباً أن يحدّد نصرالله أولوياته بالطريقة التي حددها، وأن يكون شريكاً في معونة إيران على بناء الثقة مع الدوليين وأميركا بغية تسهيل حصولها على ما تحتاج إليه!
لكن مهلاً؟ أليست هذه العقلانية والبراغماتية هي خضوع ولو غير مباشر للضغوط الأميركية؟ لماذا يسمح نصرالله لنفسه ولحزبه أن يخضعا ويراد لغيره، أي للدولة تحديداً، بكلّ أجهزتها القضائية والعسكرية والأمنية والسياسية والمصرفية، ألّا تخضع وأن تستلّ من جعبتها الخيارات القصوى في مواجهة الإمبريالية الأميركية.. هل من مصلحة البلد والناس أن يواجه حاكم مصرف لبنان العقوبات الأميركية؟ هل من مصلحة البلاد إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وهو داخل إلى لقاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؟ هل كان من مصلحة لبنان واللبنانيين والمقاومة أن نخضع لتجربة ٧ أيّار التي فتحت جرحاً أهلياً لم يندمل إلى اليوم؟ وهل كان من مصلحة البلاد واللبنانيين والحكومة أن نتورط في حرب تموز 2006، وهي كانت حرب كونية كمثل الحرب التي يتجنّبها نصرالله اليوم ويُعيب على من يدفعونه إليها؟
ماذا نفعل بالفجوة الكبيرة التي دخل منها كل من هبّ ودبّ للمزايدة على حزب الله في الموضوع الذي يطال هويته الأصلية وجوهر وجوده؟
كيف يكون الخضوع لأميركا امتيازاً عقلانياً واقعياً لفريق ومادةً للطعن والتشهير بفريق آخر لم يفعل أكثر مما يفعل نصرالله اليوم؟
لم يكن خطاباً مرتبكاً، خطابه الأخير عن حادثة إطلاق سراح اللبناني الأميركي عامر الفاخوري، وإسقاط تهم التعامل مع إسرائيل عنه. سبق ورأيناه مرتبكاً قبلاً. لم يكن خطاباً غاضباً. فذاكرتنا تحفظ ملامح الغضب في خطاباته حين يغضب. لم يكن خطاباً ديماغوجياً. فمنذ قُرّر لحزب الله الدخول في الحرب السورية، والتوغّل في ساحات العراق واليمن والصراع الإيراني الخليجي، غلبت الديماغوجية ما عداها في خطابات نصرالله.
خطابه الأخير هو خطاب انهيار الرواية. رواية حزب الله عن نفسه وعن الآخرين وعن موازين القوى في لبنان والمنطقة والعالم. خطاب التخفّف من الرواية، إن وجب الاحتياط. خطاب براغماتي غير مسبوق.
لكنّنا نعود الى الرواية… ماذا نفعل بالرواية التي سقطت؟
ماذا نفعل بالفجوة الكبيرة التي دخل منها كل من هبّ ودبّ للمزايدة على حزب الله في الموضوع الذي يطال هويته الأصلية وجوهر وجوده؟
المشكلة أنّ البناء على الخطاب الأخير لحسن نصرالله للقول إنّ هذه الفجوة تفسح المجال لتدفق المزيد من البراغماتية، وتمهّد لأرضية تسويات وطنية جذرية، سيثبُت أنّه ضرب من الوهم والتفكير الرغبوي لا أكثر.
فالرسالة الأهم في خطابه الأخير، حديثه بوضوح عن رؤيته للبنان، لا كوطن بل كقناع وكاستراتيجية تمويه، بتحذيره من تضييع ”الهامش الممتاز والذي هو خصوصية لبنانية ممتازة التي اسمها هامش المناورة، والمقاومة والدولة وجيش وشعب وما شاكل، فهذه النقطة يجب أن ننتهي منها بشكل نهائي وهذه الحادثة، قصة ما جرى في المحكمة العسكرية للعميل فاخوري، يجب أن تكون نقطة حاسمة في هذا الفهم، والذي لا يريد ذلك هو مصرّ أن يكون في جبهة العدو والخصم“.
كل البراغماتية والعقلانية والإدراك الموضوعي للوقائع يضيع عند هذا الفهم للبنان. لبنان الذي يُدغم في أدوات المقاومة وعدّة شغلها، لا لبنان الوطن، الذي يحتاج لأن يكون نصرالله صادقاً وأميناً في الجزء الجديد من خطابه، وأن يكون مخلصاً في توظيف براغماتيته لتصير كلام حقّ يراد به الحقّ.