يحلو لميشال عون أن يردّد مقولة أنّه في السياسة والشأن العامّ والرأي العام، الانطباع (perception) أهمّ من المفهوم (conception).
قد يستعين جبران باسيل بهذه المقولة في حواره المستأنَف مع الحزب. خصوصاً في ضوء الكلام الأخير لأمينه العامّ حول استحقاق الرئاسة وشخص الرئيس، وتأكيده أنّه لا يريد فرض رئيس على أحد، وباسيل ضمناً “أحدهم”.
كما في جدليّة حبّ – كره معاً وفي آن واحد، عاد الحزب وباسيل إلى الحوار.
حوار يرجَّح أن يكون مثل ورقة كمال جنبلاط الشهيرة في لقاءاته مع فؤاد شهاب. قد يبدأ ببنود كبرى مطوّلة حول قراءة الوضع الدولي. وتطوّرات المنطقة. وقد يعرّج على أزمة المناخ العالمي وتقدّم الذكاء غير البشري طبعاً. وصولاً إلى كيفيّة بناء الدولة في لبنان وضرورتها وتفصيل كلّ تفصيل فيها… لكن لبّ الحوار كلمة: الرئيس.
ما الذي أعاد الطرفين إلى هنا؟ هي بكلّ بساطة واقعيّة كلٍ منهما حيال الواقع والوقائع:
من جهة الحزب، الدوافع والحسابات واضحة:
جلسة 14 حزيران كانت محطّة حاسمة. فعلى الرغم من كلّ التوريات وخطابات الانتصار وزجليّات المكابرة، لو لم يتمّ تهريب النصاب يومها، لكان جهاد أزعور رئيساً منتخباً للجمهورية ظُهرَ ذلك النهار. ولربّما كان أدى قسمه الدستوري عبر تقنيّة زوم. ولكان باسيل أوّل المحتفلين.
كلّ المحطّات المحليّة والخارجية التي كان ينتظرها الاستحقاق الرئاسي اللبناني، انتهت إلى لا شيء
بعدئذٍ وصلت كلّ المحطات المنتظرة إلى لا شيء. بن سلمان في باريس لم يفتح موضوع لبنان. اتّفاق بكين ما زال في حقل الدرّة. التفاوض النووي الجديد المأمول، يبدو أنّ إسرائيل نجحت مرة أخرى بتفخيخه إلكرتونيّاً عبر تسريب رسائل بوب مالي، وذلك انتقاماً من أدوار هذا “اليهوديّ الضال” المالح. (وهو اسم عائلته الأصليّ)، بعد توجّس اسرائيلي قديم منه، منذ كامب دايفيد 2000 بين عرفات وباراك. يوم قيل إنّ أبا عمّار استفاد من معلومات مصدر سرّي في الجانب الآخر…
كلّ المحطّات المحليّة والخارجية التي كان ينتظرها الاستحقاق الرئاسي اللبناني، انتهت إلى لا شيء.
الحزب والمنطق العلميّ الصارم
هكذا بات الحزب أمام منطق علميّ صارم:
الاستمرار في معركة مرشّحه يقتضي خياراً من اثنين: إمّا 7 أيّار على مستوى كل لبنان. وإمّا العودة إلى الكلام مع باسيل.
7 أيّار شاملة خيار مستحيل لدى الحزب. لأسباب مبدئية أوّلاً. وعملي!ة طبعاً. ومقارنة الأمين العامّ قبل يومين عن 7 أيار 2008 وانتخاب الرئيس يوم ذاك، وبين ما يجري الآن، دليل واضح.
إضافة إلى ذلك كانت 7 أيّار السابقة ضدّ رجل مسالم اسمه سعد الحريري. بضع ساعات كانت كافية لإقناعه. وعلى الرغم من ذلك انتهى النصر العسكري بتنازل سياسي رئاسي في الدوحة، وأيضاً كلام الأمين العام الأخير برهان كافٍ.
بينما اليوم سيكون على 7 أيّار الجديد أن يواجه شعوباً لبنانية كاملة متحفّزة عدائية رافضة لأيّ تسوية. ومتّكلة على موازين قوى لا تنفع معها الصواريخ المُعدّة أصلاً وحصراً للعدوّ، لا للداخل…
إذاً لم يبقَ إلّا الكلام مع جبران.
من جهته تبدو حسابات باسيل متقاطعة شكليّاً مع منطق الحزب.
هو أوّلاً يعرف ويعترف بأنّه لا يرى نفسه في السياسة إطلاقاً، خارج مدار التحالف مع الحزب، لمليون سبب وملايين أخرى، بدءاً من الأمنيّ إلى السياسي، إلى قراءة موازين القوى في لبنان وسوريا والمنطقة، إلى الاستثمار المتراكم طيلة 17 عاماً في رصيد لن يشطبه فجأة بلا مقابل…
طبعاً هناك خيبة كبيرة لدى باسيل من سلوك الحزب تجاهه. خيبة تلامس الصدمة الكبرى. فبمعزل عن التفاصيل، ثمّة معادلة إقليمية دولية هائلة، يعتبر باسيل أنّه قد أرساها لبنانيّاً، بخلفيّة الاستثمار المشترك فيها، له وللحزب. وعلى مدى عقود مقبلة، وهي معادلة اتفاق الترسيم مع تل أبيب وواشنطن، بشراكة مع قطر. إنجاز لم يحقّقه أيّ إنسان آخر، حتى إنّ بايدن شخصياً رفع سمّاعة هاتفه واتّصل وشكر.
ما يسعى الإيرانيون، منذ ما قبل أوباما، إلى ربطه مع واشنطن، أُنجز على طفّافتين تبعدان عشرات الأمتار فقط من نقطة حدودية منسيّة في بحر رأس الناقورة. فماذا يريدون أكثر؟
إزاء كل ذلك يتمّ التبليغ بالمباشر وبالمباشِرين، أن مرشّحنا سليمان فرنجية؟ وأنّه هو الخطّة ألف وباء وتاء وحتى آخر الأبجديّات ونضوب البحار وانقطاع النفَس، وسوى ذلك من عنتريّات الراكبين على حفافي الثنائي في الإعلام واللاتواصل… ثمّ يُقال لباسيل إنّنا لا نريد فرض رئيس عليك؟
الانطباع هنا أنّ المطلوب فرض رئيس، وأنّ هذا الفرض الرئاسي تعبير عن نكران جميل كبير كبير.
لكن ما العمل؟ باسيل أيضاً ليس له من يحالفه. جعجع ينتظره في قلب البترون. تيمور دفن قبرشمون طبعاً. لكن دفن معها اللقلوق أيضاً.
الحريري قتلناه في السياسة. ثمّ انتحبنا على فراغه.
الباقي كلّه ما زال في 17 تشرين. لم يبدّل حرفاً ولن… قبل جيل كامل.
لم يعُد أمام باسيل إلا العودة إلى “الفهيم الأوّل”.
كيف تُكمل الأمور من هنا؟
الرهانان المتناقضان
يُروى أنّها مسألة رهانين متناقضين: فالحزب يريد تقطيع الوقت بانتظار تطوّر خارجي حاسم ما يزال يراه حتميّاً. فإمّا وصول اتفاق بكين إلى محطّة بيروت. وإمّا تطوّر خط الرياض دمشق، باتجاه كونسورسيوم لبناني متجدّد، يخلق مناخ 13 تشرين سياسي رئاسي. وإمّا إعادة بعث النووي، بديلاً عن الحاجة مجدّداً إلى البعث السوري.
عندها يُقال لباسيل: والآن، ماذا بقي لديك؟ وماذا ستفعل؟
إقرأ أيضاً: لودريان: كلام صريح و3 تصوُّرات وموعد
من جهته، يُروى أنّ لدى باسيل رهاناً قابلاً. تقطيع الوقت حتى مطلع السنة المقبلة، فتحترق ورقة فرنجية. تنتهي صلاحية ورقة جوزف عون، يتعب الفرنسي ويملّ الآخرون. وعندئذٍ يذهب باسيل إلى الحزب سائلاً: والآن ماذا بقي لديك؟ وماذا ستفعل، سوى التسليم بأنّني أنا من يسمّي الرئيس، وأنت من يوافق…
وبين التناقضين هناك استحالتان:
استحالة أن يسلّم الحزب خيار الرئيس لباسيل. تحت طائلة رفض الحلفاء لذلك بدءاً بنبيه بري. وانتهاء بكل من أبلغ الحزب سلفاً، أنّ سقوطه في فخ “تسليط باسيل على المسيحيين”، هو خيار حرب ضدّ أكثريتهم، كما ضدّ أكثرية اللبنانيين.
في مقابل استحالة أن يسلّم باسيل بخيار الحزب الرئاسي. تحت طائلة الانتحار السياسي، الذي يترقبه بشغف بالغ “الرفاق الحائرون” كلهم…
هي لعبة عضّ أصابع تستحق الترقّب. لولا أنّ العضّ فيها ينهش فعلاً ما تبقى من بلد وشعب.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@