منذ اتفاق الدوحة في 21 أيار 2008، أي بعد أسبوعين على أحداث 7 أيّار الشهيرة، وتأليف الحكومة في لبنان يحصل بشقّ النفس بعد أخذ وردّ وخلافات على الحصص والبيان الوزاري بين القوى السياسية. وأخيراً في ظلّ “العهد القوي” برز تأجيل الاستشارات النيابية لتكليف شخصية لتشكيل الحكومة بحجّة أن استباق هذا التكليف بمشاورات يوفّر الوقت لتأليف الحكومة وهو ما لم يصحّ مرّة!
كلّ ذلك إنّ دلّ على شيء فعلى الإرادة السياسية لدى الفريق الغالب منذ 7 أيار 2008 للإمساك بالسلطة التنفيذية في لبنان، بحيث لا تشكّل حكومة لا تمثّل مصالحه. لكن الأهمّ أنّ السيطرة على مجلس الوزراء من قبل “حزب الله” الذي يقطر وراءه حلفاءه هو محاولة لتكريس موازين القوى الجديدة أخذاً في الاعتبار الصلاحيات المعزّزة لهذا المجلس بعد “الطائف”. أي أنّ الحزب، بإمساكه بالحكومة رئيساً وبياناً وزارياً ووزارات (مع بعض الاستثناءات دائماً)، يلغي المفاعيل السياسية لاتفاق الطائف تمهيداً لنسفه أو تعديله تعديلات أساسية متى أمكنه ذلك.
إقرأ أيضاً: الحريري يشقّق تكتّل باسيل: مزيد من الضجيج
لذلك فإنّ لبنان في أزمة حكومية مستدامة منذ أيّار 2008، إذ لطالما عطّل فريق 8 آذار تشكيل الحكومة أشهراً وعندما تؤلف تكون حكومة مقبوضٌ على قرارها السياسي ومهدّدة بالتعطيل وبالإستقالة كما حصل على نحو سافر في كانون الثاني 2011، عندما استقال 10 وزراء من تحالف “8 آذار” و”التيار الوطني الحر” من حكومة سعد الحريري الأولى ليلحق بهم “الوزير الملك” وقتذاك عدنان السيّد حسين، فسقطت الحكومة باستقالة ثلث وزرائها زائداً واحداً، وكانت المرّة الأولى التي يُستخدم فيها الثلث المعطّل الذي ابتدعه “اتفاق الدوحة” خلافاً للدستور.
ها هي إيران تقدّم الهدايا عبر أذرعها في العراق ولبنان لرمز “الاستكبار العالمي”. وفي لبنان باشرت السلطة في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بعد انتظار دام عشر سنوات للتوصّل إلى “اتفاق إطار” لتلك المفاوضات
لا تشذّ حكومة سعد الحريري الموعودة عن هذه المعادلة، أي أنّها محطّة جديدة في مسار الأزمة المستفحلة على مستوى السلطة التنفيذية، كسلطة يُراد التحكّم بها من قبل “حزب الله” وحلفائه الغالبين بالاستقواء الخارجي والسلاح الداخلي. وليس مسار التكليف الجديد للحريري سوى دليل ساطع على نوايا الحزب و”التيار الوطني الحر”، كلّ وفق حساباته، للاستمرار في القبض على قرار الحكومة، وتحويلها (بالنسبة للحزب) ورقة بيد حليفته الإقليمية إيران تبيع وتشتري بها مع “الشيطان الأكبر”، عدوّها الأوّل الذي تطمح إلى الاتفاق معه.
وها هي إيران تقدّم الهدايا عبر أذرعها في العراق ولبنان لرمز “الاستكبار العالمي”. وفي لبنان باشرت السلطة في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بعد انتظار دام عشر سنوات للتوصّل إلى “اتفاق إطار” لتلك المفاوضات. ولم يتمّ الإعلان عنه إلّا قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية! وفي العراق أعلنت الميليشيات الشيعية الموالية لطهران وقف عملياتها ضدّ المصالح والقوات الأميركية، بعدما كانت مستنفرة منذ كانون الثاني الماضي للردّ على اغتيال الجنرال الايراني قاسم سليماني، ولطالما شجّعها السيّد حسن نصرالله على ذلك!
هذا يعيدنا إلى إفشال الثنائي “حزب الله” – حركة “أمل” المبادرة الفرنسية لإنتاج حكومة، وها هو الآن بعد موافقته على المباشرة بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية جنوباً لا يمانع تكليف الحريري تشكيل “حكومة مهمة” من دون أن يكون في مقدور أحد العلم ما اذا كان سيمسح للأخير بتشكيل حكومته، لأنّ الأمر رهن الحسابات الإقليمية والدولية لإيران حليفة الحزب لا الضرورات الوطنية التي تقتضي تشكيل حكومة، ورهن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
كل تلك الاختلالات تحصل في ظّل غياب وسط سياسي لبناني يمانع بقوّة رهن لبنان لسياسات محور الممانعة ويرسم حدود التدخلات الدولية في بلاد الأرز، التي يحفّزها النفوذ الإيراني المتعاظم في بيروت، وذلك من خلال الدفاع عن الدستور ورفض تكريس الأعراف اللادستورية
وحكومة الحريري الموعودة تأتي محمّلة بأزمتين، بل ثلاث: أزمة رهن تأليفها واستمرارها بعد ذلك بموازين القوى المحلية والإقليمية – الدولية وعنوانها “حزب الله”، وأزمة معالجة الأزمة المالية والاقتصادية المستفحلة خصوصاً بعد انفجار 4 آب الذي جعل نصف بيروت بما فيه وسطها خراباً، في مشهد يذكّر بنهايات الحرب الأهلية.
وإلى هاتين الأزمتين الأساسيتين تضاف ثالثة تتمثّل بالاختلال الكبير الذي يضرب الحياة السياسية في لبنان، والمتمثّل بأنّ القوى السياسية التي شكّكت ثورة “17 تشرين” في شرعيتها الشعبية وبالتالي السياسية – لاسيّما “التيار الوطني الحر” الموجود في رأس السلطة عبر الرئيس ميشال عون – تستسلم كلّيا للإرادة الدولية في لبنان تعويضاً عن عجزها الداخلي. وإلّا فلماذا أجلّت الاستشارات النيابية لتكليف رئيس للحكومة الخميس الماضي بينما لن ترجأ (“إذا لم يطرأ طارئ”!!) هذا الخميس علماً أن أسباب إرجائها، أي فقدان الميثاقية المزعومة، لم تنتفِ؟
أليس الضغط الأميركي الفرنسي ما أملى هذا التغيير في المواقف؟ ثمّ أين موقف جبران باسيل العالي السقف ضدّ تكليف الحريري؟ أمّ أنّه سينحني للضغوط الدولية الآن ثمّ يرفع رأسه بعد مرور العاصفة فيخرج خنجر الميثاقية مجدداً ويطعن به الحكومة في خاصرتها الرخوة، محاولاً الاستثمار في حالة النقمة المسيحية بعد انفجار المرفأ، بالرغم من صعوبة هذا الاستثمار بالنظر إلى النقمة المتفاقمة ضدّ العهد والتيار.
كل تلك الاختلالات تحصل في ظّل غياب وسط سياسي لبناني يمانع بقوّة رهن لبنان لسياسات محور الممانعة ويرسم حدود التدخلات الدولية في بلاد الأرز، التي يحفّزها النفوذ الإيراني المتعاظم في بيروت، وذلك من خلال الدفاع عن الدستور ورفض تكريس الأعراف اللادستورية التي يبتدعها هذا الفريق أو ذاك على حساب الضرورة القصوى لتلمّس سبل النجاة من المأزق الكبير الذي يغرق فيه لبنان غرقاً مميتاً!!