حبيب صادق: في أيّ جنوب نودّعك؟

مدة القراءة 9 د


مات حبيب صادق؟

لا.

أمثال حبيب صادق لا يموتون، يشعلون أعمارهم ليضيئوا لنا الطريق. طريق الجنوب الحرّ والمحرّر، وطريق الجنوب إلى الوطن، وطريق الوطن… إلى الخلاص.

في شبابه كان رمزاً من رموز النضال والكفاح ضدّ الإقطاع القديم، وفي “كهولته” شكّل “لا” في وجه “الإقطاع الجديد”. وفي مراحل عمره كلّها، ما برح يطرح أسئلة الجنوب التي ما تزال مطروحةً إلى اليوم، في واحدة من أغرب المفارقات التاريخية.

ما له وما عليه

لا يؤخذ على حبيب صادق غير ترشّحه على لائحة “التنمية والتحرير” التي كان على رأسها نبيه برّي، عام 1992، وهو الترشّح الذي سرعان ما كفّر عنه صادق بابتعاده عن اللائحة وخياراتها، واستقالته منها بعد ستة أشهر فقط. وثمّة من يأخذ عليه طول مكوثه “أميناً عامّاً” للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، في ولاية هي أطول من ولاية نبيه برّي نفسه على رأس المجلس النيابي اللبناني.

على الجانب الآخر، يُشهد لحبيب صادق أنّه كان نبراساً وعلَماً في مقارعة الإقطاع في الجنوب، وهو ابن كبير من كبار علماء الجنوب، ورمز من رموز “الإقطاع الديني” الموالي للإقطاع السياسي فيه، الشيخ عبد الحسين صادق. 

أمثال حبيب صادق لا يموتون، يشعلون أعمارهم ليضيئوا لنا الطريق. طريق الجنوب الحرّ والمحرّر، وطريق الجنوب إلى الوطن، وطريق الوطن… إلى الخلاص

جمع حبيب صادق ما يبدو للعيان في أيامنا هذه أنّه مفارقات، بل متضادّات. فهو يساريّ من عائلة دينية، ومثقّف وسياسيّ أو سياسيّ مثقّف: سياسي زاهد في السياسة ومنافعها، ومثقّف زاهد في السلطة وتبعاتها. وهو جنوبيّ شيعيّ مواطِن من الدرجة الأولى، وهو ما يرسم علامة تعجّب كبيرة في أيام التشيّع هذه، أو في أيامنا هذه التي يُفلتها الحزب من عقالها.

وُلد عام 1931 في الخيام، ومنها انتقل إلى النبطية، فبيروت. عام 1964 انضمّ إلى ثلّة من شعراء الجنوب وأدبائه ومفكّريه في تأسيس “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”، وسرعان ما أصبح “الأمين العام” للمجلس عام 1975، وبقي حتى وفاته، أمس، عن عمر ناهز الـ92 عاماً.

أسئلة جنوبيّة قلقة

طرح حبيب صادق في حياته الكثير من الأسئلة “الجنوبية”، وهي أسئلة لا تختصّ بجنوب لبنان وحده، بل تتعدّاه إلى جنوب الكرة الأرضية، وشمالها أيضاً، من دون أن يصل إلى نتيجة تُذكر، شأنه شأن كثر في العالم، مثل الطيّب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال” وغيرها، صعوداً ونزولاً. ويطرح في مماته اليوم السؤال الملحاح والأبرز الذي يقضّ مضاجعنا، نحن “الجنوبيين”: في أيامنا هذه، من سيكون “حبيب صادق” الجديد؟

شكّل الرجل في مسيرته و”مجلسه” علامةً فارقةً في الثقافة والشعر والنضال والسياسة، وفي قول “لا” أيضاً. وللحقّ والتاريخ، لا مفرّ من أن يقول المرء إنّ تاريخ جبل عامل، والجنوب خصوصاً، والوطن العربي والعالم عموماً، لا يحضر من دون حضور حبيب صادق ومنشورات “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي” ومطبوعاته. 

ساهم الرجل في أرشفة وتدوين وتأريخ كلّ ما يمتّ بصلةٍ إلينا إلى الجنوب، عبر شهادات ومحاضرات، بل مذكّرات عدد كبير ممّن لم يمرّوا على دنيا الجنوب والوطن العربي والعالم عبثاً، شعراً وأدباً وفكراً وثقافةً وسياسةً، من محمد علي شمس الدين، جوزف حرب، الياس لحّود، محمد العبد الله، حسن عبد الله وشوقي بزيع وغيرهم… والجيل الذي سبقهم: هاشم وعبد المطلب وحسن الأمين وموسى الزين شرارة وجورج جرداق وسلام الراسي وإميلي نصر الله ومحمد دكروب وعبد اللطيف شرارة وبولس سلامة وعبد الرؤوف فضل الله ويوسف حوراني… إلخ، وصولاً إلى محمود أمين العالم وعبد الرحمن منيف… واللائحة تطول.

كان حبيب صادق حاضراً في كلّ المعارك والنقاشات والحوارات، منذ ميلاده إلى أن أقعده المرض وأبعده. وكان أكثر حضوراً منذ عام 2005، تاريخ ابتعاده عن السياسة بوصفها عملاً مباشراً، منه في سائر مراحل حياته. كان يعرف جيّداً كيف يقول “لا”، ومتى، وأين؟

صعبٌ أن نكتب تاريخ الجنوب خصوصاً، ولبنان والعالم عموماً، من دون العودة إلى حبيب صادق والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي

يساريٌّ “دائم”

يموت حبيب صادق كما نشأ، يساريّاً تقدّميّاً ضدّ الرجعية، وضدّ كلّ إقطاع، “أصيلاً” كان أم “مصطنعاً”. يغادر الجنوب وسؤال التعدّدية والتنوّع ما يزال مطروحاً منذ غياب “الإقطاع القديم”: هل “الجنوب يتّسع للجميع”؟ لا.

واقع الجنوب اللبناني يقول لا، باسم قوى الأمر الواقع. جنوب حبيب صادق، غير جنوبهم. لكم جنوبكم، ولنا جنوب حبيب صادق، البلاد المفتوحة على الشعر والفكر والأدب والسياسة… والمقاومة التي تحرّر البلاد والعباد والنصوص والقوافي والشعر.

علاقته الملتبسة بالحزب الشيوعي لم تنعكس على “شيوعيّته”، ولا على “يساريّته”. لقد كان “حبيب صادق” أنّى حلّ وارتحل: من العائلة، إلى الحزب، مروراً بالوطن… فالعالم… وصولاً إلى الشعر، وانتهاءً في الجنوب.

وقد ساهم في تعليم كثيرين. كانت له 15% من المنح التي للحزب الشيوعي، لذا كان الأب الروحيّ لجامعيين كثر تخرّجوا من جامعات الاتحاد السوفيتي. على الرغم من ذلك بقي محافظاً على علاقته بالحزب الشيوعي، فلا هي علاقة اتصال ولا انفصال، ولا مفردة في اللغة تعطيها حقّها وتصفها كما هي.

في شخصه تماهى الحزب والدين والفكر والأمّة. كان حبيب صادق منها كلّها، وهكذا سيبقى. هو منبر لكلّ صوت حرّ، ولسان حال كلّ مغبون ومضطهَد وساعٍ إلى التغيير. كان علامة الاستفهام في ختام كلّ سؤال.

الأحبّ الأصدق

صعبٌ أن نكتب تاريخ الجنوب خصوصاً، ولبنان والعالم عموماً، من دون العودة إلى حبيب صادق والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي. لقد أدرك الرجل جيّداً الزمن الذي وُلد فيه وعاشه وودّعه، فعرف كيف يكتب، وعرف كيف يجعل الآخرين يكتبون أو يقولون بينما يكتب هو!

مات حبيب صادق؟ لا.

إقرأ أيضاً: العرب وتقسيم المقسّم

كيف يموت من يجعل للآخرين حياةً؟ كيف يموت من يكتب الجنوب، كلّ جنوب، بجراحه وأفراحه وأتراحه؟ كيف يموت سياسيّ نظيف الكفّ، ومثقّف زاهد، ومواطن أبعد ما يكون عن الطائفية والزبائنية وامتهان كرامة الغير؟

ستبقى حبيباً وصادقاً، بل ستكون الأحبّ والأصدق، كلّما مرّ وقتٌ وساسةٌ وأحزابٌ وأيّامٌ ودول.

*من مؤلفاته ومنشوراته

صنّف أكثر من عشرة كتب في الأدب والسياسة والشعر، بالإضافة إلى اشتراكه في الكثير من الدراسات التي نظّمها واصدرها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، هذا وقد اهتمّ حبيب صادق بجمع التراث الشعري والأدبي العاملي، وأشرف على مجموعة من الإصدارات تحت عنوان (تراث عاملي).

*في الشعر

– في زمن القهر والغضب – شعر – دار العودة – 1973

– جنوبا ترحل الكلمات – شعر – دار العالم الجديد – 1980

*في الأدب والسياسة

– مطلع النور- تمثيليات قصيرة – دار الكتاب اللبناني – 1982

– فصول لم تتم – دار الآداب – 1969

– شهادات على حاشية الجنوب – دار الفارابي – 1981

– كلمات للوطن والحرية – دار الفارابي – 1986

– قضايا ومواقف – دار الفارابي – 1990

– وجوه مضيئة في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع- جزءان – دار الأقلام – الجزء الأول 1998 والجزء الثاني 2004

– صراع المصالح والإرادات في معركة الانتخابات النيابية 2005 – دار الأقلام – 2005

– في وادي الوطن – مقاربات في شؤون وشجونه – دار الفارابي – 2010

*مؤلفات بالاشتراك مع آخرين

– جنوب لبنان خط المواجهة الأول – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1980

– وجوه ثقافية من الجنوب – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1981

– المقاومة في التعبير الأدبي – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي- 1985

– ثقافة المقاومة ومواجهة الصهيونية – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1989

– شيخ الأدب الشعبي: سلام الراسي – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1991

– مقاربات وشهادات في المشروع الصهيوني – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1991

– دفاع عن الآثار والمباني التاريخية – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1994

– الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وتحديات المرحلة – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1995

– حسين مروة في مسيرته النضالية – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1997

– انتصارا لقيم الديموقراطية والعدالة وتقدم الإنسان – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 2000

– تجديد الفكر السياسي من أجل التغيير – بالاشتراك مع آخرين – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 2001

*مؤلفات لغيره قام بجمعها وتحقيقها وتقديمها

– معا من أجل الجنوب – جمع وتحقيق وتقديم – المجلس الثقاف للبنان الجنوبي – 1979

– الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان – جمع توثيقي وتقديم – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1981

– دليل جنوب لبنان كتابا – إشراف، تحقيق وتقديم – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – الجزء الأول 1981 – الجزء الثاني 2010

– جنوب لبنان ماساة الصمود – تحرير وتحقيق وتقديم – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – 1981

– في رحاب الخيام – ديوان شعر الشيخ عبد الكريم صادق – جمع وتحقيق وتقديم – دار الأقلام – 1984

– الوقائع اليومية لمسيرة المقاومة اللبنانية الوطنية – جمع، إشراف، تحقيق وتقديم – المجلس الثقافي للبنان الجنوبي- 1986

– عرف الولاء – للشيخ عبد الحسين صادق – جمع وتحقيق وتقديم حبيب صادق – مؤسسة الانتشار العربي – 2005

– طائر الحرية – ديوان شعر للأسير ياسر حسين خنجر – تقديم وإشراف وتحقيق – دار الفارابي – 2003

– ديوان شاعرة الجنوب بسينة فخري – تقديم وجمع وتحقيق – الانتشار العربي – 2006

– سقط المتاع – الشيخ عبد الحسين صادق – جمع وتحقيق وتقديم – الانتشار العربي – 2007

– في أدب العراق الحديث – لعبد الرضا صادق – إشراف وتحقيق وتقديم – دار الفارابي – 2009

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…