جبران باسيل بين “دبس” بشير و”طحينة” نصرالله

مدة القراءة 5 د


في إطلالته الأخيرة، ظهر رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل عبر شاشة ليخاطب اللبنانيين. هي المرة الأولى التي يعتمد هذا الأسلوب، والأمر مفهوم: بسبب ما فرضه فايروس كورونا من احتياطات. لكن من يستمع إلى خطاب باسيل الأخير والطويل، لا بدّ أن يلاحظ الشبه في الأسلوب مع خطابات أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، لجهة تبويب المواضيع والخطاب المطوّل و”الحكواتي” الذي يحاول عبره تقصير المسافة التي تفرضها الشاشة، عبر تطويل الكلام ومطّه وتدعيمه بأمثلة وحكايات، ليكون “مسلياً” للجمهور الملتزم الحجر المنزلي، و”المتسمّر” افتراضاً أمام الشاشات. وفي هذه المفارقة ما يحيلنا إلى مفارقة ثانية تخرج رأسها من تحت شرشف طاولة الخطاب الأخير، لتذكّرنا بأن جبران المتأثر تارة بنصرالله في خطاباته وسياساته، لا يزال يتأثر طوراً بمثاله الأعلى بشير الجميل. وبهذا يجتمع الضدّان في شخصية الرجل الذي دخل سريعاً نادي الكبار في السياسة اللبنانية، وسريعاً “اكتسب” شعبية كبيرة جعلته على كلّ لسان، مشتوماً غالباً، وممدوحاً قليلاً.

إقرأ أيضاً: باسيل يغازل الأميركيين: ترسيم الحدود هو الأساس؟

واجتماع نصر الله وبشير في شخصية جبران كمثل اجتماع الدبس والطحينة. يستحيل بعد خلطهما، أن يُفصلا. وجبران في تركيبته السياسية وصل إلى هذه الحال المتقدّمة من اختلاط الدبس والطحينة. فلا هو قادر أن يغلّب الدبس على الطحينة، ولا العكس. ويستمر في تناول الوصفة الملزمة، فيما مستويات السكّر السياسي في دمه ترتفع، ويعاني لخبطة في الأنسولين غير القادر على تعديل أثر السكر في صحته السياسية. فجبران، بسبب نقص في الكاريزما، التي يمتلكها بقوة كلٍّ من حسن نصرالله وبشير الجميل، يجد نفسه منساقاً إلى تقليد الرجلين في السلوك السياسي المتناقض، وهو حينما يهمّ بالمشي، وتظن أنه سيتقدّم خطوة بقدم بشير إلى الأمام، تردّه قدم نصرالله إلى الخلف، والعكس بالعكس. شيء أشبه بعربة بحصانين. وكلٌّ منهما يسير بها باتجاه معاكس. وهذا يخلق لدى باسيل اضطراباً فاضحاً في التعبير عن هويته السياسية. فهو، إلى فاشيته المسيحية القومية اللبنانية المريدة ضمناً (وقولاً) للسلام مع “إسرائيل” (مقابلته على “الميادين”)، والمدافعة عن عودة عملائها وإطلاقهم من السجون (في أكثر من مناسبة)، يجمع مقاومة “شرسة” للعدو الإسرائيلي، ويحتفظ في منزله بقذيفة –مزهرية – هدية من “حزب الله” في عيد المقاومة والتحرير، عربون شكر على “تضحياته” ودعمه للمقاومة.

وإذا كانت تجربة بشير الجميل “منذ بدايته المتطرّفة حتى نهايته التي شاب تطرّفها قدر من الاعتدال”، تشير بحسب حازم صاغية (انظر كتابه “تعريب الكتائب اللبنانية”) “إلى أنه مثّل محطة وسطى بين الكتائبية واللاكتائبية”، فإنّ تجربة جبران باسيل قد تبدو لوهلة أنها تمثّل محطة وسطى بين العونية واللاعونية، لكن بالتمحيص والتدقيق، يتبيّن أنها تقع في الفالق بين الكتائبية – القواتية والحزب اللهية. فباسيل، المعجب ببشير، لا يكاد فعلياً يشبهه في شيء، وإن كان يحلو لكريم بقرادوني ان يضعهما على الدرجة نفسها من سلّم تسلّق الزعامة المسيحية. لكن، وعلى طريقة نصرالله، هيهات! فبشير، وإن تنازعه التناقض بين كتائبيته من عدمها، إلا أنه ظل قادراً على الموازنة، وهو إذ لم يذعن للمؤسسات والسلطة، إلا أنه لم ينتفض بالكامل عليها كما يلاحظ صاغية، وبقي مرتبطاً ارتباطاً مخفّفاً بالصيغة العائلية للكتائب التي أراد يوماً أن يدفنها. وبهذا المعنى عرف بشير كيف يستحضر الدبس والطحينة في شخصيته من دون أن يخلطهما.

سكّر الدبس لا يحلّي مرار الواقع الذي لا محيد من مواجهته، والذي كشف منذ 17 تشرين عن لعيان وتلبّك معوي، لدى كثيرين، من الدبس ومن الطحينة، ومن خلطة الدبس بطحينة

أما باسيل، فعلى العكس، عمل منذ البداية على تدعيم ترابطه بمفهوم العائلة العونية تحت جناح العمّ الرئيس ميشال عون، مستظلاً بالقرابة وبإعجاب الجنرال بشخصيته، فظنّ أنه مثل بشير يقوم بعملية “تطهير” داخل التيار العوني عبر استبعاد خصومه الحزبيين وإقصائهم، لكن مع محافظته على علاقة لصيقة ونفعية بدينامو العونيين ميشال عون نفسه، مدعّمة بوثيقة تفاهم ذهبية مع “حزب الله”. ولم يسجّل في تاريخ جبران أيّ نوع من التمرّد او الاختلاف ولو البسيط مع عمّه ميشال عون في أيّ قضية. وهو يعزّز هذه السيرة الذاتية الناصعة في العلاقة مع الأب المؤسّس للتيار الوطني الحر، ويصطدم عملياً بالبشيريين الفعليين في التيار الذين انتفضوا على المؤسسات العونية وسلطتها، فطردهم معزّزاً العونية السياسية كبيت سياسي مقفل على التوارث، مثل باقي بيوت البكوات ودواوين الأمراء.

وهو بذلك يحاول أن ينجز واحداً من أطول الانقلابات السياسية، سعياً للإطاحة بالرقم القياسي الذي سجّله كريم بقرادوني لبشير الجميل حينما انتخب رئيساً للجمهورية، فعلّق قائلاً: إن هذا هو “أطول انقلاب في تاريخ لبنان” (راجع كتاب فواز طرابلسي “تاريخ لبنان الحديث”).

لكن سمسم الطحينة في هذه التركيبة لا يفتح باب المغارة، ولا يوصل “علي بابا” إلى كنز بعبدا. وسكّر الدبس لا يحلّي مرار الواقع الذي لا محيد من مواجهته، والذي كشف منذ 17 تشرين عن لعيان وتلبّك معوي، لدى كثيرين، من الدبس ومن الطحينة، ومن خلطة الدبس بطحينة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…