تمرّد بريغوجين كشف ضعف بوتين

مدة القراءة 8 د

أدار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معظم مدة رئاسته محاطاً بعزلة شديدة، محصَّناً في قصور، متنقّلاً من ضواحي موسكو المشجّرة إلى شاطئ البحر الأسود، بعيداً عن الشعب الروسي والبيروقراطيّات والأجهزة الأمنيّة التي يرأسها. غير أنّه يوم السبت، في الساعة العاشرة صباحاً، وهي ساعة مبكرة بالنسبة له، ظهر ليأمر في خطبة لم تدُم سوى خمس دقائق جيشه بتدمير “تمرّد مسلّح” قاده أحد الموالين السابقين له، يفغيني بريغوجين، زعيم قوّة المرتزقة المعروفة باسم مجموعة فاغنر.
كانت تلك اللحظة، بحسب المحلّل السياسي في صحيفة “نيويوركر” ديفيد ريمنيك، لحظة انكشاف ضعف الرئيس الروسي الذي اعتقد قبل عام ونصف أنّه قادر على الاستيلاء على كييف في غضون أيّام. لكنّه بعد عشرات الآلاف من الضحايا والعديد من المدن المدمّرة في وقت لاحق، لم يعُد بإمكانه التركيز فقط على مغامرته في أوكرانيا، بل أصبح، كما كان الوضع أيام ثورة 1917، مضطرّاً إلى حماية عاصمته وسلطته ضدّ الآلاف من مرتزقة بريغوجين الذي كشف بتمرّده على بوتين عن بعض أعمق الانقسامات والمخاوف داخل القيادة الروسيّة، على الرغم من إلغائه مسيرة قوّاته المرتزقة شمالاً لتجنّب إراقة الدماء.

لماذا انتفض بريغوجين؟
استقى ريمنيك معلوماته عن هذه الانقسامات والمخاوف من ميخائيل زيغار، أحد أكثر المراسلين والمعلّقين خبرة واطّلاعاً بشأن سلطة الكرملين، والذي غادر روسيا إلى أوروبا منذ بدء الحرب وكان يشغل منصب رئيس تحرير قناة TV Rain المستقلّة التي أغلقها بوتين بعد بدء الحرب، وكان كتابه الصادر عام 2016 بعنوان “كلّ رجال الكرملين” من أكثر الكتب مبيعاً في روسيا، وهو دراسة جيّدة موثّقة لحكم بوتين والديناميكيات الداخلية لدائرته الحاكمة.
بالنسبة لزيغار، يُعتبر بريغوجين “الرجل الذي يتحدّى بوتين من أجل السلطة”. انهارت العلاقة بين بوتين وبريغوجين خلال الحرب على أوكرانيا حين انتقد بريغوجين مراراً وتكراراً على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيّما تطبيق المراسلة “تلغرام”، وبكلمات بذيئة، القيادة العسكرية الروسية لخيانتها مجموعة فاغنر وحرمانها من الذخيرة والدعم، وبشكل عام إفساد المجهود الحربي ضدّ أوكرانيا. قال زيغار لمحلّل “نيويوركر”: “لقد افترقا في اللحظة التي بدأ فيها بريغوجين يعتقد أنّه يتمتّع بشعبية. فبعدما تجوّل في روسيا لتجنيد سجناء لمجموعة فاغنر وتحدّث معهم بلغتهم، لم يعد دمية في يد بوتين. أصبح بينوكيو صبيّاً حقيقياً”.

لسنوات عدّة، اختار بوتين أشخاص دائرته الداخلية بمعيار واحد فقط: افتقارهم إلى الطموح. ليسوا الأفضل بين الأفضل. بل أسوأ الأسوأ

لماذا انتفض؟ لأنّ بوتين كان ضعيفاً، بحسب زيغار، ولم يعد يدير البلاد حقّاً. على الأقلّ ليس كما فعل في الماضي. صحيح أنّه ما يزال رئيساً، لكنّ الجهات المختلفة المحيطة به، الفصائل داخل الحكومة والجيش، والأهمّ من ذلك، الأجهزة الأمنيّة، “تشعر الآن بأنّ مرحلة “روسيا ما بعد بوتين” باتت وشيكة وعليهم الاستعداد لها”.

بوتين قدوة بريغوجين
يرى زيغار أنّه من الناحية الأيديولوجيّة “يجمع بريغوجين بين فكرتين. الأولى هي مكافحة أمرين: الفساد، وحكم الأقليّة، إذ إنّه على الرغم من ثروته الهائلة، قدّم نفسه دائماً مقاتلاً للأوليغارشية. في الوقت نفسه، هو غير ليبرالي أبداً. يكره الغرب ويدّعي أنّه الحامي الحقيقي للقيم التقليدية. من المحتمل أن يكون لديه مؤيّدون أكثر من مجموعة فاغنر. هناك أشخاص في الجيش وجهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي FSB  (أي الوكالة الأمنيّة الرئيسية لروسيا التي خلفت جهاز المخابرات السوفييتي) ووزارة الداخلية يمكن أن يكونوا حلفاءه الأيديولوجيّين”.
من المفارقات، بحسب زيغار، أنّ بريغوجين تعلّم التفوّق على بوتين من بوتين نفسه. في بداية حكمه، كان بوتين معروفاً في الغرب بشكل أساسي بسبب ماضيه وخلفيّته في جهاز الكي جي بي، لكنّ جاذبيته الشعبية ارتبطت أيضاً بقدرته على التبجّح في الشارع واستغلال لغة الفتى الذي لعب وقاتل في أفقر ساحات بلدته. لم يكن يخشى إلقاء النكات أو استخدام الألفاظ النابية في العلن. بل تعهّد بقتل الأعداء داخل “بيوتهم الخارجية”، فتميّز، في ذلك الوقت، بأنّه رجل قريب من الشارع، ومن الشعب. لكن منذ أن أصبح أكثر بعداً وأكثر ثراءً بشكل غير معقول، تفوّق عليه بريغوجين، الذي غالباً ما كان يرتدي ملابس قتالية كاملة ويتبختر أمام الكاميرات بجوار قوّاته على خطّ المواجهة في المدن الأوكرانية مثل باخموت، مؤدّياً دوراً شعبويّاً.
يعتبر زيغار أنّ “بريغوجين لديه سيرة مميّزة خاصة” أيضاً. فهو يتحدّث مثل السجناء. إنّه الرجل العاديّ. سلك نفس مسار بوتين قبل عشرين عاماً عندما كان السياسيون، في عام 1999، كباراً في السنّ من السوفييت المحتضرين، غير القادرين على التحدّث بلغة الناس. جاء بوتين وتحدّث مثل رجل عصابات وبأسلوب غوبنيكgopnik ، المرتبط بموسيقى التشانسون الروسية، ومثل شخص من الأحياء الفقيرة في لينينغراد. كان ذلك انقلاباً ثقافياً، إذ كان رجلاً يعرف مشاكل الناس البسطاء. ثمّ جاء بريغوجين واتّبع هذا النمط لكن بطريقة أكثر همجيّة.
المواجهة بين بوتين وبريغوجين هي أيضاً صراع على البروباغندا. يتمتّع بوتين بالدعم الكامل من المعلّقين التلفزيونيّين المشهورين ممّن هم من أبواق الرئيس. بينما يتمتّع بريغوجين على الأقلّ بدعم ضمني من طاقم جديد. وفقاً لزيغار فإنّ “خبراء البروباغندا الأكثر أهميّة الآن هم من يُسمّون بمراسلي الحرب على منصّة “تلغرام”، وضبّاط سابقون تحوّلوا إلى مدوّنين يقدّمون أنفسهم ممثّلين لـ”روسيا حقيقية” معيّنة”.

إذا سقط بوتين قريباً، فقد يخلفه عناصر متشدّدون جدّاً تدعمهم الأجهزة الأمنية، أو جماعة أكثر ليبرالية “نسبياً” يمثّلها رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين وعمدة موسكو سيرغي سوبيانين

مثل أيام ستالين الأخيرة
على الرغم من تراجع بريغوجين عن إرسال قواته إلى موسكو سيجهد المحلّلون الروس والغربيون والأوكرانيون الآن لفهم معنى الصراع مع بوتين، وما كشفه عن التنافس على السلطة في موسكو، وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للحرب. ويرى زيغار أنّ هناك كلّ الاحتمالات بأن يحشد بوتين، على المدى القصير على الأقلّ، الولاءات التي يحتاج إليها لإزالة بريغوجين من الصورة. لكنّ ذلك لا يعني أنّ بوتين يمكن أن يكون هادئاً بشأن موقفه على المدى الطويل: “قبل هذا التمرّد، كان هناك الكثير من الشائعات والنظريّات حول الجماعات المختلفة التي تدعم بريغوجين، من شخصيات في عالم الأعمال مثل إيغور سيتشين المدير التنفيذي لمجموعة الطاقة “روزنيفت”(Rosneft)  ونائب رئيس الوزراء السابق، ومن سيرغي شيميزوف الرئيس التنفيذي لمجموعة الدفاع المملوكة للدولة “روزتيك” (Rostec)”.
يُضاف إلى ما سلف أنّ جهاز الأمن الفدرالي، ليس كتلة واحدة، بل هو مزيج من الجماعات المختلفة، ويجب التنبّه إلى ردّ فعله. لسنوات عدّة، اختار بوتين أشخاص دائرته الداخلية بمعيار واحد فقط: افتقارهم إلى الطموح. ليسوا الأفضل بين الأفضل. بل أسوأ الأسوأ. فكيف سيواجه أصحاب الأداء المتوسّط هؤلاء شخصاً واحداً يائساً شجاعاً، أو مجموعة إرهابية شجاعة يائسة؟ هذا بحسب زيغار يجب التنبّه إلى أنّه إذا سقط بوتين قريباً، فقد يخلفه عناصر متشدّدون جدّاً تدعمهم الأجهزة الأمنية، أو جماعة أكثر ليبرالية “نسبياً” يمثّلها رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين وعمدة موسكو سيرغي سوبيانين.

إقرأ أيضاً: هزيمة بوتين ورقة بايدن الرئاسيّة الرابحة

مصدر “نيويوركر” يشبّه السياق الحالي إلى حدّ ما بالأيام الأخيرة لجوزف ستالين، في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كان يخطّط لعملية تطهير أخرى (ضدّ اليهود، “الكوزموبوليتانيّين الذين لا جذور لهم”، وغيرهم من الأعداء المتصوَّرين)، بينما كان المنافسون مثل جورجي مالينكوف ونيكيتا خروتشوف “ينتظرون بصبر” أن يموت الرجل العجوز حتى يتمكّنوا من التحرّك. وبحسب زيغار، يدرك بوتين تماماً كيف استغلّ المستبدّون مثل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان محاولات الانقلاب لتنفيذ اعتقالات جماعية، وقمع وسائل الإعلام والمعلومات بشكل أكبر، وإعادة تنظيم الحكومة. وقد يحذو حذوه.
يلفت زيغار إلى أنّ هذه اللحظة التي ينشغل فيها الجيش الروسي بمشاكله الداخلية قد تكون “فرصة تاريخية لأوكرانيا لكي تهاجم الآن، لكن ليس من المؤكّد أنّ الفوضى الحالية في روسيا هي أخبار جيّدة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. إذ قد يدفع مثلُ هذا الإحراج الداخلي بوتين إلى تصعيد الحرب في أوكرانيا. مصادره غير متأكّدة بعد من أنّ بريغوجين قد انسحب بالفعل. فالحياة السياسية الروسيّة غامضة، ولطالما كان من الصعب معرفة ما يجري فيها”.

   

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…