وكأنّ التاريخ يعيد نفسه. تتشابه علاقة وليد جنبلاط بعهد الرئيس ميشال عون بعلاقته بعهد إميل لحود. مع فارق اساسي: لم يصوّت جنبلاط للحود في العام 1998، بينما اختار السير بتسوية عون. عدا عن ذلك، العلاقة بين بعبدا والمختارة تستعيد صورها. تصعيد فتوتر، مواجهة، مساعٍ لهدنة، فلقاء. يخطئ جنبلاط ويصيب في خياراته. ينقسم اللبنانيون على قراءة مواقفه إذا ما كانت انهزامية وتراجعية، أم أنّه فعلاً يكون قد سجّل انتصاراً. بين المنزلتين، همّه معروف، خطه واحد، ولا يمكن أن ينكسر وإن ظهر مقدّماً لبعض التنازلات.
القطيعة التي كانت سائدة على خطّ المختارة – بعبدا، طوال الأشهر السابقة، دفعت بجنبلاط الى إطلاق مواقف عنيفة ضدّ عون وعهده. وصف العهد بأنّه انتهى، دعا إلى إسقاطه وعاد وتراجع لعدم الخروج عن الثوابت الطائفية. لكنّه استمر على مواجهته. عندما بدأت حكومة حسان دياب بعقد الاجتماعات والبحث في الإجراءات الإصلاحية مالياً واقتصادياً. استشعر جنبلاط مخاطر العهد. عبّر عن هواجسه وتغيير النمط الاقتصادي للبنان. أعلن سقوط لبنان الكبير، والسعي لولادة لبنان موازٍ لإيران وسوريا.
إقرأ أيضاً: في بعبدا: مشاركة متواضعة لا تغيّر مسار الخطة الحكومية
كان يعرف ماذا يضرب وأين. ضرب على وتر حسّاس لدى المسيحيين، الذين يتغنّون بلبنان الكبير، وبأنّهم أصحاب الاقتصاد والمؤسسات الكبرى فيه. وقعت الإجراءات كما كلام جنبلاط كالصاعقة على المسيحيين لا سيما أصحاب رؤوس الأموال. زاروه مراراً، فقال أمامهم وجهة نظره. سعى هؤلاء على خطّ بعبدا، التقوا رئيس الجمهورية، توجّهوا إليه بكلمة أساسية، وهي: إذا خسر لبنان مصارفه واقتصاده ونموذجه، فستكون الخسارة الأفدح على المسيحيين، ولا يمكن لعون أن يسمح لتصفية الحسابات السياسية مع خصومه، أن تؤدي إلى تصفية لبنان. أتوا في اللقاء على ذكر جنبلاط وما يحذّر منه، ونصحوا عون بألا يستمر في مواجهة جنبلاط وأن يفتح نقاشاً معه. رفض عون بحزم. كرّر اتهامه لجنبلاط بأنّه كان يريد أن يغتال جبران باسيل في قبرشمون، وأنّه يرفض لقاءه ويجب محاسبته مع الآخرين.
جاوب الوفد عون بأنّ مشكلة قبرشمون، قد حلّت وحصل لقاء مصالحة في بعبدا، وبعدها لقاء بيت الدين. لكن عون لم يحد قيد أنملة عن موقفه. أصرّ على هجومه، وبقي جنبلاط على تصعيده. في هذا الوقت، كان منسوب التوتر يرتفع في الجبل. تتزايد حدة التصريحات، وصولاً إلى ما ينذر بفتنة قابلة للتفجّر عند أيّ خطأ أو سوء تقدير، فتودي بجبل لبنان إلى فتنة أكبر وأخطر.
لم يتبدّل موقف جنبلاط في بعبدا عن موقفه قبل الزيارة. أعلن مسبقاً أكثر من مرّة أنّه لا يريد تشكيل أحلاف لأنّ الظروف مختلفة ولا تناسب التحالفات. يعرف أنّ الدخول في تحالف سياسي، يعني تقييده وتقويض حركته، وتقديم خدمة كبرى للعهد والحكومة وحزب الله، ستؤدي إلى تكريس الاصطفاف وتعزيز شعبويتهم. الموقف نفسه كرّره في بعبدا لجهة انعدام علاقته بأيّ أحلاف ثنائية أو ثلاثية.
عندما رفع الصوت في الأيام الماضية، رفضاً للتطويق وحرب الالغاء التي يخوضها عون، استشرفت شخصيات مسيحية لها تمثيلها في الجبل، خطورة الوضع. سارعت إلى طلب موعد من بعبدا، وهؤلاء من بين الذين يعارضون توجّهات سليم جريصاتي، وجبران باسيل، وغسان عطالله وزياد أسود، وهم من رفاق عون القدامى.
بالإضافة إلى النائب فريد البستاني، والوزير السابق ناجي البستاني والمطرانين مارون العمار وايلي حداد، الذين عملوا على خط التهدئة، زار الوفد عون تحت عنوان أنّه لا يمكن الاستمرار بمواجهة جنبلاط ولا تطويقه في الشوف، والرهان على طلال أرسلان أثبت فشله. لا يمكن استكمال سنوات العهد بمواجهة مع جنبلاط، والذي دوماً يعرف كيف يخرج رابحاً.
كان عون أكثر تجاوباً هذه المرة، وأكثر ليناً. رحّب بمساعيهم، باعتبار أنّ لبنان لا يحتمل أيّ توتر إضافي، ولا بدّ من عقد لقاء، لترطيب الأجواء. أبدى الوفد ارتياحه. سارع إلى لقاء جنبلاط طلباً للتهدئة. كان جنبلاط حاضراً، وهو صارحهم بالقول إنه لم يعتدِ على أحد ولا يقبل لأحد أن يعتدي عليه. بادر أكثر من مرّة تجاه عون، لكنه ما إن يدير ظهره حتّى يلقى بالسهام تطعنه من الخلف. قدّم الوفد مطالعة نقدية، تحمل مراجعة لما سبق. نقلت عن عون تقديره لجنبلاط، وأنّه زعيم الجبل وزعيم طائفته، ولا بدّ من التنسيق معه بعلاقة طيبة. أبدى جنبلاط استعداده، وتمّ العمل على تحديد الموعد.
لم يذهب جنبلاط إلى بعبدا بنية تغيير موقفه، تماماً كما ذهب يوم المصالحة لحلّ قضية قبرشمون وخرج منها منتصراً. انتصار جنبلاط في قبرشمون يبقى راسخاً لدى العهد وألدّ اعداء زعيم المختارة، وهم لطالما تحينّوا الفرصة لكسره وردّ الصاع له. انتهزوا فرصة حكومة حسان دياب. حاولوا أكثر من مرة وفشلوا. ما دفع الكثير من الشخصيات التي رفعت الصوت طلباً للهدنة وأقنعت عون بذلك، على قاعدة عدم القدرة على تجاوز جنبلاط، ومحاربته ستكون مكلفة وخسائرها كبيرة.
في السياسة، جنبلاط ينتصر مجدداً كما انتصر بعد قبرشمون، طلب عون اللقاء بعد مساعيه لمحاكمة جنبلاط، فعاد الرجل ليكون الحدث بنفسه من بوابة بعبدا
اتّسم اللقاء بطابع ايجابي، حول ضرورة تهدئة النفوس، سحب فتائل التوتر، ووقف الشتائم المتبادلة ومنع بعض المسؤولين من إطلاق مواقف استفزازية حتّى إنّ عون قال لجنبلاط إن بعض المسؤولين في التيار كانوا يريدون تسجيل مواقف فتمّ منعهم من ذلك. كان جنبلاط ليّناً مع عون، أبدى استعداداً للتعاون، خاصة أنّ الظروف لا تسمح بمعارك ولا صراعات، وخاصة في الجبل. وافق عون على المضمون. لم يتمّ البحث في مسألة التعيينات، فيما الأساس كان لوقف الحروب السياسية التي لن تؤدي إلى أيّ نتيجة.
في السياسة، جنبلاط ينتصر مجدداً كما انتصر بعد قبرشمون. طلب عون اللقاء بعد مساعيه لمحاكمة جنبلاط، فعاد الرجل ليكون الحدث بنفسه من بوابة بعبدا. في الشكل، ثمة اختلاف في قراءة الصورة. بعضهم يعتبر جنبلاط تراجع وانقلب وأصبح على ضفة العهد، وهذا غير صحيح. وآخرون يعتبرون أنّه تخلى عن جعجع والحريري، وذهب إلى ترتيب مصالحه، خاصة أنّ جعجع كان قد حيّد نفسه، فيما الحريري أخذ على عاتقه مواجهة العهد ومقاطعته، فظهر جنبلاط وكأنّه ترك الحريري وحيداً.
ميزة جنبلاط أنّه يبقى حاجة للجميع. للحلفاء والخصوم. كلّ من يعارض الرجل يهدف لأن يستقطبه ويجعله في صفه. خطوة عون بطلب اللقاء من جنبلاط، فيها تكتيك لإظهار تفتيت جبهة معارضة العهد، وتصوير جنبلاط بأنّه انقلب فتفقد أيّ معارضة عصبها. الأمر نفسه تكرّر ما بعد انتصار جنبلاط في قبرشمون، يومها قرّر سمير جعجع زيارة الشوف لتعزيز الموقف وتثبيت التحالف، ما كان سيعزل باسيل. أيقن باسيل لحظة الخسارة. سارع إلى ترتيب لقاء مع تيمور جنبلاط في اللقلوق. وتعمّد تسريب الصورة في اليوم نفسه الذي كان سيزور جعجع جنبلاط في المختارة. سارع رئيس القوات إلى إلغاء الزيارة، بعتب شديد على جنبلاط. استثمر باسيل يومها بتعطيل الزيارة كما يستثمر عون اليوم بلقاء بعبدا لشيطنة جنبلاط في عيون حلفائه.
التاريخ العوني لا يوحي بأن اللقاء وما سبقه من حوارات سيؤدّي إلى أكثر من هدنة. عون لن ينسى قبرشمون وجنبلاط ما تعوّد إلاّ على الانتصار في الجبل.