جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها مارقة. رئيس مؤسسة غايتستون، وهي مجموعة تفكير، وباحث سابق في مؤسسة أنتربرايز المرتبطة بالمحافظين الجدد. عمل كمحامٍ، ودبلوماسي، ومستشار سابق للأمن القومي. ما بين عامي 2001 و2005 عمل في إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن في ملف نزع السلاح. واستلم منصب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بين عامي 2005 و2006. وفي إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب عمل مستشاراً للأمن القومي بين عامي 2018 و2019، ثم استقال لخلافات في الرأي مع الرئيس. وفي أواخر حزيران العام الحالي، صدر له كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث“ مذكرات البيت الأبيض”The Room Where It Happened: A White House Memoir”، والذي تضمّن انتقادات لاذعة لسياسات ترامب، وكيفية إدارته قوة عظمى في مواجهة أزمات حادة.
“أساس” ينفرد بنشر مقتطفات من الكتاب على حلقات، بالاتفاق مع دار نشر “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، التي حصلت على حقوق الترجمة والنشر بالعربية.
منذ حقبة إدارة جورج دبليو بوش، كنت أرغب في تخليص الولايات المتحدة من معاهدة INF (القوات النووية المتوسطة المدى). فقد كانت روسيا تنتهك المعاهدة لسنوات، في حين بقيت أميركا متمسّكة بها، وراحت تتفرّج على ما يجري. ومع حظر الصواريخ والقاذفات التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر (310 إلى 3420 ميلاً)، كان الهدف من اتفاقية غورباتشوف وريغان عام 1988، منع حرب نووية في أوروبا. لكن مع مرور الوقت، فقدت المعاهدة غرضها الأساس، وذلك بسبب الخروقات الروسية المستمرة، وتغيّر الواقع الاستراتيجي العالمي، وكذلك التقدّم التكنولوجي. وحتى قبل تولّي ترامب منصبه، بدأت روسيا نشر الصواريخ التي تنتهك الحظر في المعاهدة في كالينينغراد على بحر البلطيق، وهو ما مثّل تهديداً كبيراً للدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. وعلاوة على ذلك، وعلى المدى الطويل، فإن المعاهدة لا تُلزم أيّ بلدان أخرى (بصرف النظر عن الدول الأخرى التي خلفت الاتحاد السوفياتي)، بما في ذلك، الدول التي تمثّل أكبر التهديدات بإزاء الولايات المتحدة وحلفائها. الصين، على سبيل المثال، لديها أكبر نسبة من الصواريخ التي تتجاوز بالفعل المدى المحظور في المعاهدة، مما يعرّض للخطر حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك يعرّض للخطر الهند وروسيا نفسها، وهذه مفارقة جيدة. إلى ذلك، فإن قوة الصواريخ الباليستية متوسطة المدى الإيرانية تهدّد أوروبا، وهي بصدد التوسّع، كما هو حال كوريا الشمالية، وباكستان، والهند، وتلك التي من شأنها أن تكون قوى نووية. وأخيراً، فإن المعاهدة عفا عليها الزمن من الناحية التكنولوجية.
إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (8): بوتين في قمة هلسنكي “لا نحتاج إيران في سوريا”
سبقنا ترامب وانسحب من المعاهدة
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، قبل لقائي نظيري الروسي باتروشيف Patrushev في موسكو في الأسبوع التالي، من أجل استكمال المحادثات بشأن معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى، أطلعت ترامب على مدى تطوّر الأمور، بما في ذلك كلّ العمل المشترك بين الوكالات، وجهدنا الدبلوماسي التمهيدي مع دول حلف شمال الأطلسي وآخرين، والجدول الزمني المحتمل للانسحاب من المعاهدة، مع الإشعار الذي سيرسله بومبيو في 4 كانون الأول/ ديسمبر إلى روسيا بشأن استئناف الامتثال لمقتضيات المعاهدة أو أمر آخر. ردّ ترامب قائلاً: “لماذا يتعيّن علينا أن ننتظر كلّ هذا الوقت؟ لماذا لا يمكننا الخروج فقط؟ قلتُ: كنت بالتأكيد على استعداد لمثل هذا. شرحت له أنه بمجرّد أن نعلن عن نيتنا الانسحاب، فإن الروس على الأرجح سوف يقومون بالأمر نفسه، متهمين لنا بانتهاك المعاهدة، وهو أمر غير صحيح. بدلاً من ذلك، اقترحت على ترامب ما يلي: لماذا لا أطلب من باتروشيف أن ينسحب البلدان بشكل متبادل؛ هذا النهج يمكن أن يوفّر علينا الكثير من الأسف، ويسمح لنا أن نعلن الاتفاق مع روسيا على شيء ما من الأهمية. ومع ذلك، قال ترامب: “لا أريد أن أفعل ذلك. أريد فقط الخروج”. كنت أعتقد أنّ الانسحاب المتبادل سيكون طريقاً أكثر جاذبية لترامب، ولكن إذا لم يكن كذلك، فلا بأس. لم أكن لأهتمّ بما ستفعله موسكو.
منذ حقبة إدارة جورج دبليو بوش، كنت أرغب في تخليص الولايات المتحدة من معاهدة INF (القوات النووية المتوسطة المدى). فقد كانت روسيا تنتهك المعاهدة لسنوات، في حين بقيت أميركا متمسّكة بها، وراحت تتفرّج على ما يجري
غادرت قاعدة أندروز المشتركة يوم السبت، وحلّقت الطائرة بسلاسة لمدة عشرين دقيقة حتى رأيت ترامب، وهو يجيب على سؤال لمراسل في تجمّع انتخابي في إلكو، نيفادا، قائلاً: “إننا سنغادر معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى”. للوهلة الأولى قلت في نفسي: “حسناً، هذا يُنهي الأمر”. لم يكن هذا هو التوقيت الذي اتفقت عليه أنا وماتيس وبومبيو، ولكن يبدو أنّ ترامب قد قرّر أنّ “الآن” هو أفضل (فترة الانتظار تبلغ 180 يوماً في المعاهدة).
اتصلت على الفور بساندرز المتحدّثة باسم البيت الأبيض في واشنطن، وهي التي لم تسمع ملاحظة ترامب، واقترحت عليها صياغة بيان بسرعة لاحتواء تعليقه، فوافقت. ثم اتصلت ببومبيو، الذي قال إنه أمر “مروّع”. “كيف يمكن لترامب أن يجعل إعلاناً مهماً مثل الانسحاب من معاهدة INF في سياق جواب على سؤال مراسل؟”. لقد كانت مناسبة نادرة، حيث ينتقد بومبيو صراحة شيئاً فعله ترامب. لم أوافق بومبيو، لأن كلّ ما جرى هو تسريع جدولنا الزمني، وهذا الذي كنت أريده. وطالما أنّ القرار بات علنياً، علينا إرسال إشعار رسمي من طرفنا بالانسحاب من المعاهدة لبدء مهلة الستة الأشهر المنصوص عليها. قلت إيضاً إنه يجب أن نعلن أيضاً عن التعليق الفوري لالتزاماتنا بموجب المعاهدة، مما يسمح لنا ببدء السباق التسلّحي للحاق بروسيا والصين ودول أخرى.
كيف يمكن لترامب أن يجعل إعلاناً مهماً مثل الانسحاب من معاهدة INF في سياق جواب على سؤال مراسل؟ لقد كانت مناسبة نادرة
حماية الانتخابات من الحرب الإلكترونية
خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2016، وصفت الجهود الروسية للتدخل في الانتخابات بأنها “عمل حربي” ضدّ مؤسساتنا الدستورية. وشاهدت بفزع تقارير عن اجتماع بوتين مع ترامب في مجموعة العشرين 2017، والاجتماع معه في هامبورغ، بألمانيا، حيث نفى بوتين نفياً قاطعاً أيّ تدخل روسي في الحملة الانتخابية. لم نكن بحاجة إلى إنفاذ القانون على نحوٍ مناسب ضدّ التهديدات السيبرانية الدولية فحسب، بل كنا بحاجة إلى استجابة عسكرية كبيرة ذات قدرات سرية كذلك. وبناء على ذلك، كانت إحدى أولى القضايا التي اهتممت بها، قدرتنا على الاضطلاع بعمليات إلكترونية هجومية ضد خصومنا، بمن في ذلك الجماعات الإرهابية وغيرها من “الجهات الفاعلة غير الحكومية”. كان هناك صراع طويل الأمد يجري بين أولئك الذين يفضّلون نهج إدارة أوباما، معتقدين أنّ الجهود السيبرانية الدفاعية فقط، هي كافية، مع أندر الاستثناءات، وذلك مقابل وجهة النظر الأكثر قوة، والتي تعتبر أنّ القدرات الهجومية حاسمة في هذا المجال. كانت روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وغيرها، تتنازع معنا في الفضاء الإلكتروني. لقد حان الوقت للقتال. وعليه، كنا بحاجة إلى القيام بأمرين: أولاً، كنا بحاجة إلى استراتيجية إلكترونية لإدارة ترامب، وثانياً، كنا بحاجة إلى إلغاء قواعد عهد أوباما واستبدالها بهيكل أكثر مرونة وسرعة لصنع القرار.
فُرضت عقوبات على وكالة أبحاث الإنترنت الروسية، وهي ذراع من أجهزة الجرائم الإلكترونية في روسيا؛ وعوقب أكثر من 34 مسؤولاً روسياً لانتهاكهم العقوبات الأميركية المتعلّقة بسوريا
مراعاة ترامب لمشاعر بوتين
كانت إدارة ترامب قد فرضت عقوبات اقتصادية جديدة كبيرة، إضافة إلى عقوبات أوباما، على المواطنين والكيانات الروسية في عام 2017، بسبب ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم، فضلاً عن تمديد العقوبات الأخرى. أُغلقت القنصليات الروسية في سان فرانسيسكو وسياتل؛ وُطرد أكثر من ستين عميلاً للمخابرات الروسية (العاملين في الولايات المتحدة بصفة “الدبلوماسيين”). فُرضت عقوبات على وكالة أبحاث الإنترنت الروسية، وهي ذراع من أجهزة الجرائم الإلكترونية في روسيا؛ وعوقب أكثر من 34 مسؤولاً روسياً لانتهاكهم العقوبات الأميركية المتعلّقة بسوريا. وصف ترامب هذه الإجراءات بأنها إنجازات كبرى، ولكن جميعها تقريباً ارتدّ عليها ترامب نفسه لاحقاً، إما اعتراضاً عليها، أو على الأقل تذمّراً منها. ووافق ترامب أخيراً على فرض عقوبات على روسيا قبل قمة هلسنكي، لكنه تأجّل الإعلان عنها إلى حين انتهاء القمة. وأوضحنا لترامب أنّ هذه العقوبات هي الأولى فقط فيما كان من المرجّح أن تكون جزءاً من سلسلة إجراءات، لأن النظام الأساسي المعمول به ينص على عقوبات أكثر صرامة من أيّ وقت مضى إذا كانت الدولة المتهمة لم تقدّم أدلة مقنعة على أنها تخلّت عن الأسلحة الكيميائية و/أو البيولوجية، بما في ذلك السماح للمفتشين الدوليين التحقّق من الامتثال للقرارات. ولم يصدّق أحد أنّ روسيا ستفعل ذلك. عندما اختتمت قمة هلسنكي، أُعلنت العقوبات، حيث لم يكن هناك حاجة إلى قرار جديد. أراد ترامب، عند سماعه الأخبار، إلغاءها. كنت أتساءل عما إذا كان سبب هذه الأزمة بأكملها زيارة راند بول Rand Paul [سيناتور ومرشح رئاسي سابق عام 2016] لموسكو، وقد حظيت بتغطية صحفية كبيرة، وحيث أكد أنّ الروس بلا شك غير راضين عن العقوبات. وكان هذا مثيراً للسخرية، إذ كان الساسة التحرّريون مثل بول قلقين للغاية بشأن حساسيات الكرملين الرقيقة. انعقدت جلسة استماع، حيث دعا وزير الخزانة ستيفن منوشين Steven Mnuchin، بومبيو وأنا لإلقاء اللوم علينا لعدم إخباره عن العقوبات الجديدة، وهي معلومات غير دقيقة لأن العقوبات قد مرّت في وقت سابق من خلال عملية مراجعة مجلس الأمن القومي دون اعتراض من أيّ شخص. في غضون ساعات، خلص ترامب إلى أنه كان مرتاحًا بشأن هذا القرار بالذات، لكنه لا يزال يعتقد أننا كنا أشداء جداً على بوتين. ترامب طلب من بومبيو الاتصال بوزير الخارجية الروسي لافروف، والقول له: “بعض البيروقراطيين” هم الذين أعلنوا العقوبات – وهو اتصال ربما لم يحدث على الإطلاق.
بالإضافة إلى الاعتراض على العقوبات تجاه روسيا، أوقف ترامب بياناً ينتقد روسيا في الذكرى السنوية العاشرة لغزوها جورجيا، وهو خطأ لا ضرورة له أبداً. روسيا كانت ستتجاهله، لكن الأوروبيين لاحظوا غيابه وأصبحوا أكثر قلقاً بشأن التصميم الأميركي. كان هذا عملاً نموذجياً من ترامب، الذي منع في حزيران/ يونيو عام 2019 مشروع بيان بمناسبة الذكرى الثلاثين لمذابح ميدان تيانانمين في الصين، وانتقد وزارة الخارجية لإصدار بيان صحافي قبل أن يعلم بذلك. ويبدو أنّ ترامب يعتقد أنّ انتقاد سياسات وتصرفات الحكومات الأجنبية تجعل من الصعب عليه أن يكوّن علاقات شخصية جيدة مع القادة. وكان هذا انعكاساً لما يصعب عليه فعله، أي فصل العلاقات الشخصية عن العلاقات الرسمية.
*نشر في الأصل بلغته الإنكليزية بعنوان: THE ROOM WHERE IT HAPPENED.
Copyright (c) 2020 by John Bolton
حقوق النشر بالعربية (c) شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش. م. ل.
جميع الحقوق محفوظة (c)