حين كان جو بايدن في البيت الأبيض نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما (2009 – 2016)، شهدت أسواق النفط في منتصف ولايتهما الثانية واحدة من أكبر الهزّات التاريخية، وكان ذلك الحدث اقتصادياً وسياسياً في آن معاً، ترافق مع تغيير وجه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في ذلك الحين.
ففي العام 2014، انهارت أسعار النفط، وفقدت نحو 60% من قيمتها، بعد أشهر قليلة من إبرام الاتفاق النووي الذي أعاد النفط الإيراني إلى الأسواق، تزامناً مع قفزة غير مسبوقة لإنتاج النفط الصخري الأميركي.
وخلافاً لما كان متوقعاً من أوباما، ذي التوجّهات البيئية، شهدت الولايات المتحدة على مدى سنوات حكمه الثماني أكبر زيادة في إنتاج النفط في أيٍّ من العهود الرئاسية، وانعكس ذلك على سياستها الخارجية، فلملمت أوراقها في الشرق الأوسط، تاركةً الحبل على الغارب لروسيا وإيران و”الإخوان المسلمين”، وصبّت جلّ اهتمامها على الشرق الأقصى والتوترات في المحيط الهادئ وبحر الصين.
إنتاج النفط الأميركي قفز بأكثر من 70% في ولايتي أوباما – بايدن
لم تحدث تلك الطفرة النفطية بتشجيع من الرئيس الديمقراطي، بل بفضل طفرة النفط الصخري التي كانت هائلة بكل المقاييس. يكفي أن تعرف أنه عند دخول أوباما وبايدن إلى البيت الأبيض مطلع 2009، لم يكن إنتاج الخام الأميركي سوى 5.1 مليون برميل يوميا. كان ذاك الرقم يعادل أقل من نصف الإنتاجين الروسي والسعودي. وعندما غادر الرجلان منصبيهما، كان إنتاج النفط الخام الأميركي قد ارتفع إلى 8.8 مليون برميل يوميا، أي أنه زاد بأكثر من سبعين في المئة خلال ثمانية أعوام.
تابعت الطفرة مسارها في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب مع استمرار التطوّر التقني وانخفاض التكاليف، لتصبح الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، وليسجّل إنتاجها أعلى أرقامه القياسية فوق 12.8 مليون برميل يومياً في شباط 2020، قبل أن يعود فيهوي بنحو 2.5 مليون برميل يومياً بفعل جائحة كورونا.
حقّقت تللك الطفرة حلماً أميركياً لطالما تردّد على ألسنة الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين منذ السبعينات، هو الاستقلال في موارد في الطاقة، لا سيما عن نفط الشرق الأوسط. فبعد أن كان صافي الواردات الأميركية من النفط الخام والمنتجات البترولية قد سجّل رقماً قياسياً عام 2016 ملامساً 12.6 مليون برميل يومياً، انخفض الرقم إلى أقل من 700 ألف برميل يومياً فقط في 2019، أي أن الولايات المتحدة استغنت عن نحو 94% من حاجتها إلى الاستيراد. بل إنّها كانت مصدّراً صافياً في بعض فترات العام الماضي.
سياسات بايدن ستحدّ من إغراق السوق العالمية بالنفط الصخري الأميركي وستعيد لـ “أوبك” شيئا من حصتها السوقية
حدث كلّ ذلك بفضل طفرة تكنولوجية أتاحت استخدام تقنية “التكسير الهيدروليكي” لاستخراج النفط والغاز الصخريين بتكلفة اقتصادية. إلا أنّ تلك التقنية بالذات كانت محور مساجلات ساخنة بين بايدن وترامب في الأسابيع الماضية، بلغت الذروة في المناظرة الرئاسية الثانية، والتي استغرق ملف الطاقة فيها وقتاً لا سابق له في أيّ من المناظرات المماثلة من قبل. كان محور تلك المساجلات الالتزام الذي أعلنه بايدن بوقف منح التراخيص الجديدة لعمليات “التكسير” (fracking) في الأراضي والمياه الفدرالية، ما يعني وضع عقبة أمام توسّع إنتاج النفط والغاز الصخريين في ولايات مثل بنسلفانيا وتكساس ونيومكسيكو وأريزونا وأوهايو، كما في مياه خليج المكسيك. وقد اضطر بايدن إلى توضيح موقفه مراراً، بأنه “ليس ضد التكسير” بالمطلق، وإنما يريد وضع تشريعات لجعله يراعي اشتراطات بيئية وتنظيمية، منها تطبيق تقنيات لالتقاط انبعاثات الكربون الناتجة عنها.
لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فلدى بايدن العائد إلى البيت الأبيض خطة طموحة باستثمارات تصل إلى تريليوني دولار للتحوّل إلى الطاقة النظيفة، ومن أهم أهدافها تصفير الانبعاثات الكربونية من معامل الكهرباء بالكامل بحلول عام 2035. كما تعهّد الرجل بإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، بعد أن مزّقها ترامب. وإذا ما أضيف كلّ ذلك إلى سياسات أخرى مرتقبة، مثل الإعانات الضريبية للسيارات الكهربائية وللطاقة المتجدّدة، وفرض “ضريبة الكربون” على الشركات الأكثر تلويثاً، ومنها بطبيعة الحال شركات النفط والغاز، فربما يكون النفط الأميركي قد وضع الذروة وراءه.
ماذا يعني ذلك لنفط الشرق الأوسط؟
في المبدأ، لا يمكن لأيّ سياسة “معادية” للنفط أن تكون مريحة لكبار المنتجين، خصوصاً وأنّ سياسات التحوّل توفّر دعماً حكومياً للتكنولوجيا التي تقلّص الاعتماد على النفط، من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إلى السيارات الكهربائية وأنواع جديدة من الوقود النظيف، وكلّ ذلك يقلّص من الاعتماد على النفط مستقبلاً.
الولايات المتحدة لن تعود زبوناً ثقيلاً لـ “أوبك”، بل إنّ خفض إنتاجها سيتلازم مع انخفاض استهلاكها النفطي وتحوّلها إلى الطاقة النظيفة
لكن الجانب المفيد يكمن في الحدّ من إغراق السوق العالمية بالنفط الأميركي، والذي كان السبب الأهم لانهيار الأسعار منذ العام 2014. ولذلك، ربما تؤدي السياسات البيئية الأميركية إلى استعادة منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) شيئاً من حصتها السوقية العالمية، مع انخفاض إنتاجها من 33 مليون برميل يومياً إلى نحو 24 مليون برميل يومياً في الوقت الحالي (حصتها من سوق النفط العالمي باتت أقل من الربع في ظلّ التخفيضات الاستثنائية الحالية للإنتاج). كما سيساعد “أوبك” في استعادة شيء من وزنها، تضاؤل الإنتاج في العديد من الدول الأخرى على مدى العقد المقبل مع تقادم الحقول وضعف الاستثمارات.
إقرأ أيضاً: سياسة بايدن تجاه لبنان والمنطقة: لا داعي لـ «المقامرة»…
لن تعود الولايات المتحدة زبوناً ثقيلاً لنفط “أوبك” بكل الأحوال، بل إنّ خفض إنتاجها النفطي سيتلازم إلى حدّ بعيد مع انخفاض استهلاكها النفطي، وتحوّلها إلى أنواع الوقود النظيف والطاقة المتجدّدة، وهذا يشير إلى أنّ الإدارة الديمقراطية ليست في وارد التراجع عن سياسة استقلالية الطاقة. إلا أنّ نفط الشرق الأوسط سيبقى مركز الثقل في خريطة الطاقة العالمية، وسيبقى استقراره ركيزة في السياسات الدولية، أياً يكن زبونه الأكبر.