انقلاب بريغوجين أو تلقين درس لبوتين؟

مدة القراءة 8 د

24 ساعة ممّا سمّاه الطبّاخ السابق لبوتين مسيرة العدالة إلى موسكو شغلت العالم بأسره. في البيت الأبيض، استُنفر الرئيس بايدن، أُلغيت كلّ المواعيد، تشكّلت خلايا أزمة من كلّ الأجهزة الأمنيّة والعسكرية، لدراسة سيناريوهات ما بعد دخول موسكو، أو سقوطها، واحتمالات الحرب والفوضى، ومصير الحقيبة النووية ومن سيحملها، أيكون المجرم الجنائي السابق ومجرم الحرب اللاحق يفغيني بريغوجين، أم تبقى الحقيبة مع بوتين، أم تذهب إلى قوميّ متعصّب ثالث، مجهول الهويّة؟ مراكز البحث الغربية كانت أعدّت كلّ الخطط اللازمة للسيناريوهات المختلفة منذ انكشاف مدى الفشل الروسي الاستخباري والعسكري للعملية الخاصة التي أطلقها بوتين العام الماضي، لتغيير النظام في كييف، والتي انطوت على أرقام مرعبة من الخسائر الهائلة في الأفراد والمعدّات. وتضمّنت تلك الخطط نقطتين أساسيّتين: عدم التدخّل في أيّ حرب أهليّة روسيّة، باتّجاه أيّ طرف، لأنّ الخطأ في الانحياز قد يُفضي إلى استعداء الطرف الآخر الذي سيملك القرار النووي في نهاية المطاف. أمّا النقطة الثانية فهي اتّخاذ كلّ الإجراءات الضرورية لحصر الحرب الأهليّة ضمن حدود الاتحاد الروسي، وضمان عدم انتقالها إلى البلدان المجاورة (انظر على سبيل المثال الدراسة الصادرة في كانون الأول الماضي عن مؤسّسة هدسون تحت عنوان: استعداداً للانهيار النهائي للاتحاد السوفيتي وانحلال اتّحاد روسيا).
لكنّ آثار الحراك العنيف في أكبر بلد في العالم، لا يقتصر على الخطر النوويّ، فروسيا وإن كانت قد أضحت مجرّد قوّة إقليمية كبيرة بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، بحسب تعبير الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ولم تعُد قوّة عظمى بالمعنى الأتمّ، إلا أنّها ليست كأيّ دولة أخرى، وكلّ تغيير فيها يجرّ معه سلسلة طويلة من الأحداث في عدد كبير من البلدان القريبة والبعيدة. حتى قبل وصول قافلة فاغنر إلى مشارف موسكو، لمحت أوكرانيا إمكانية إنهاء الحرب بأقلّ جهد، فدعا رئيسها فولوديمير زيلينسكي الجنود الروس إلى الانسحاب من بلاده والانضمام إلى قعقعة السلاح في موسكو. جورجيا طلبت فتح ملفّ إقليمَيْ أبخازيا وأوسيتيا الشمالية اللذين تحتلّهما روسيا منذ اجتياح عام 2008. لدى دول البلطيق المجاورة (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) كما لأوكرانيا وبولندا وفنلندا تداخلات جغرافية مع روسيا ومطالبات تاريخية بأراضٍ مسلوبة، وتوجد أقليّات روسيّة على أراضيها. حتى ألمانيا لم تنسَ مقاطعة كالينينغراد (كوسينبرغ اسمها الألماني) التي طرد السوفيت سكّانها الألمان عقب الحرب العالمية الثانية عام 1946، وغيّروا اسمها وجعلوه على اسم الرئيس الأسبق للاتحاد السوفيتي ميخائيل كالينين، واستوطنوها (يبلغ سكّانها أقلّ من نصف مليون، معظمهم روس والبقيّة بيلاروسيون وأوكرانيون)، وجعلوها قاعدة نووية متقدّمة في أوروبا. وبعيداً عن أوروبا، فإنّ النظام العالمي الحالي بتحالفاته المعقّدة، قابل للتغيّر عند أدنى تغيّر في الكرملين، وسلسلة الخاسرين والرابحين على مدّ النظر، على المديَيْن القريب والبعيد. كلّ هذا كان سحابة صيف قصيرة، عندما تمكّن الحليف الوثيق لبوتين، رئيس جمهورية روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو من عقد صفقة مع صديقهما المشترك بريغوجين. فكانت الخاتمة صادمة وغير مفهومة. حصل بريغوجين على عفو قانوني وعلى منفى قريب من مسقط رأسه في بيلاروسيا المجاورة. فيما مضى مسار تذويب مجموعة فاغنر في طريقه كما كان مقرّراً. أمّا تنحية وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد الأركان فاليري غيراسيموف، كما كان يطالب مالك شركة فاغنر، فغير منظورة أو غير متوقّعة. وسؤال واحد، حيّر كلّ المراقبين والخبراء والسياسيين وأجهزة الاستخبارات في العالم، لم يجد أيّ إجابات شافية حتى بعد خطابَيْ بوتين وبريغوجين. فكيف يتوقّف بريغوجين عن الزحف وطريق موسكو مفتوحة أمامه، فلو دخلها لسقط بوتين ومعه شويغو وغيراسيموف تلقائيّاً؟ هل كان انقلاباً عسكرياً أم مجرّد تظاهرة احتجاجيّة؟ ولماذا وقف الجيش النظامي على الحياد؟

بحسب وسائل إعلام مختلفة، فإنّ بوتين أمر بتصفية بريغوجين، وهو ما لم يحصل. أمّا الضبّاط والجنود فكانوا بين فريقين: إمّا أنّهم كانوا لا يعتبرونه صراعاً مع عدوّ، بل كان مجرّد نزاع داخليّ قذر

بوتين وبريغوجين بين سرديّتين
بعد 48 ساعة على إيقاف زحف قوات فاغنر إلى موسكو، أدلى كلّ من الرئيس بوتين ومموّل فاغنر بريغوجين بدلوه في محاولة استمالة الرأي العامّ الروسي إلى جانبه، في نزاع لم يتوقّف بعد على سرديّة الحرب الأوكرانية، وما لحق بها من أحداث. فالرئيس الروسي كرّر في كلمته اتّهام بريغوجين بالخيانة من دون أن يسمّيه، مجدِّداً عرضه على مقاتلي فاغنر: إمّا الانضمام إلى الجيش أو النفي إلى بيلاروسيا. وما هو أهمّ في خطابه أنّه حاول تفسير عدم تصدّي القوات النظامية لقافلة فاغنر المتوجّهة إلى موسكو، أو حتى التي احتلّت روستوف وفيها قيادة العمليات في أوكرانيا من دون قتال، فقال إنّه أمر بتجنّب إراقة الدماء. وكأنّه ترك الطريق مفتوحة عمداً أمام المتمرّدين إلى موسكو، وهو تبرير غير معقول طبعاً، بل شكر قادة الأجهزة الأمنيّة والعسكرية كما المواطنين على مواجهتهم المتمرّدين، وهو معاكس تماماً لِما شهدته المدن والطرقات خلال “مسيرة العدالة” إلى موسكو. فالعوائق كانت بدائية (وضع شاحنات ضخمة وسط الطريق وتخريب الجسور) ولا وجود لوحدات قتالية على الطريق إلى العاصمة. أمّا في موسكو نفسها، فرجال الشرطة ومكافحة الشغب والحرس الوطني والقوات الخاصة وبعض الميليشيات الموالية فقط كانت بانتظار بريغوجين.
بحسب وسائل إعلام مختلفة، فإنّ بوتين أمر بتصفية بريغوجين، وهو ما لم يحصل. أمّا الضبّاط والجنود فكانوا بين فريقين: إمّا أنّهم كانوا لا يعتبرونه صراعاً مع عدوّ، بل كان مجرّد نزاع داخليّ قذر، ولا يريدون الموت من أجله، أو كانوا مؤيّدين لمطلب الإصلاح الذي حمله بريغوجين، ولم يكونوا مستعدّين بالقدر نفسه التضحية من أجله.

بالمقابل، قدّم بريغوجين طرحاً أكثر تماسكاً من طرح وليّ نعمته السابق، فقال إنّ فاغنر هي الوحدة القتالية الفضلى في روسيا وربّما في العالم، وإنّ مقاتليها أنجزوا عدداً كبيراً من المهامّ لمصلحة روسيا الاتحادية فقط، في إفريقيا وفي البلدان العربية وفي كلّ العالم. وأخيراً حقّقت نتائج جيّدة في أوكرانيا بإنجاز أهمّ التكليفات (وآخرها احتلال باخموت). لكن مع القرار بإنهاء وجود هذه الوحدة القتالية بحلول 1 تموز 2023، اجتمع مجلس القادة وزوّد المقاتلين بكلّ المعطيات. فلم يقبل بالتعاقد مع وزارة الدفاع سوى نسبة ضئيلة تراوحت بين 1% و2% فقط، لأنّ انضمام أفراد فاغنر إلى الجيش سيضيع القدرة القتالية للوحدة ككلّ، وسيكون جنود فاغنر كما هو الحال في العملية الخاصة في أوكرانيا مجرّد “وقود مدافع”. وأضاف بريغوجين: “مع معارضتنا للقرار الذي أتى في اللحظة غير المؤاتية بالمرّة، بدأنا بجمع كلّ معدّاتنا وكلّ شيء نحتاج إليه في أحد المواقع. وكنّا سنذهب في قافلة إلى مدينة روستوف لتسليم المعدّات إلى قيادة الأركان في 30 حزيران. لكن على الرغم من عدم إظهار أيّ عداء من جانبنا إلا أنّنا تعرّضنا للقصف بصاروخ. وراحت الطوّافات تقصفنا. قُتل حوالى 30 مقاتلاً، وجُرح آخرون. كان ذلك بمنزلة الشرارة لمجلس القادة من أجل اتخاذ قرار الردّ وفوراً، لأنّ ما جرى هو محاولة تصفية (بسبب رفض الانضمام إلى الجيش). أثناء مسيرة العدالة التي دامت 24 ساعة وصلت إحدى القوافل إلى روستوف وتوجّهت أخرى إلى موسكو. اجتزنا 780 كلم في 24 ساعة. لم يُقتل جندي واحد في البرّ. نأسف لأنّنا اضطررنا إلى إطلاق النار على الطائرات. لكنّها كانت تلقي القنابل والصواريخ علينا، ولم يكن بقي للوصول إلى موسكو أكثر من 200 كلم. وخلال الطريق تمّ تحييد كلّ المنشآت والمطارات. لم يكن هدفنا أيّ جندي. جرح منّا بعض الأفراد، وقتل اثنان من الجنود النظاميين الذين انضمّوا إلينا. لم نجبر أيّ مقاتل من فاغنر على المسير معنا، وكلّهم كانوا يعرفون الهدف النهائي”. أمّا المفاجأة، وهي الجواب على السؤال الأهمّ: “الهدف النهائي كان تجنّب تسريح فاغنر ومحاسبة أولئك الذين بأفعالهم غير الاحترافية ارتكبوا عدداً هائلاً من الأخطاء خلال العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. وكان هذا ما يطالب به المجتمع الروسي. عاملان مهمّان قادانا إلى قرار التراجع: الأول أنّه لم نكن ننوي سفك الدم الروسي. والثاني أنّنا كنّا نريد إظهار اعتراضنا وليس خلع الحكومة في البلاد. في هذه الأثناء، مدّ الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو يده واقترح إيجاد حلول لاستمرار عمل فاغنر تحت سلطة القانون. تراجعت القوافل وعادت إلى معسكراتها”.

إقرأ أيضاً: تمرّد بريغوجين كشف ضعف بوتين

ما هو مثير للاهتمام كما يقول بريغوجين أنّ مسيرة العدالة كشفت كثيراً من الأمور التي تكلّم عنها سابقاً في انتقاداته اللاذعة، إذ ثمّة مشكلة أمنيّة في كلّ روسيا، فلم تعترض قافلة فاغنر أيّ مقاومة على طول الطريق. “وقطعت القافلة في 24 ساعة المسافة التي تعادل المسافة بين نقطة انطلاق القوات الروسية في 24 شباط 2022 إلى كييف، ومن النقطة نفسها إلى مدينة أوزهورود Uzhhorod غربي أوكرانيا على الحدود مع سلوفاكيا والمجر”. والمغزى أنّه لو كانت العمليات العسكرية الروسية منذ بداية العملية الخاصة على القدر نفسه من الخبرة والمعنويّات والاستعداد التي تتمتّع بها قوات فاغنر لكان ممكناً أن لا تستمرّ العملية في أوكرانيا أكثر من 24 ساعة. وبحسب تعبير بريغوجين: “قدّمنا درساً نموذجياً عن الكيفية التي كان يجب أن تُدار بها الحرب في أوكرانيا”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…