زينة برجاوي
قبل عامين، انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي بطلاه أم وابنها المصاب بمرض التوحّد. حينها، قرّرت فاتن مرعشلي، أن تغني لابنها المراهق محمود حجازي أغنية “شو حلو.. حبيبي شو حلو”، التي كانت “ضاربة”، وذلك على طريقتها الخاصة، ليتعرّف الجميع على قصة فتى، سرعان ما تحوّل إلى نموذج يُحتذى به بين المصابين بالتوحّد، في مجتمع لا يتقبّلهم وينظر إليهم نظرة مختلفة.
بفضل والدته، تحدّى محمود جميع العوائق وهناك اليوم صفحة على موقع “فايسبوك” بعنوان “Proud of my son awesomeness”، أي “أفتخر بابني المذهل”، تديرها والدته، ويتابعها أكثر من 400 ألف في لبنان والعالم العربي. نعود اليوم إليها في اليوم العالمي للتوحّد، وهو الثاني من نيسان.
إقرأ أيضاً: يوميات عائلة في الحجر: اليوم الخميس أو الجمعة؟
لم تقتصر قصّة محمود على هذا الموضوع فقط. فتزامناً مع انطلاقة ثورة 17 تشرين، تعرّف الناس إليه بصورة مغايرة، بعدما قرّرت والدته مرة جديدة أن تتحدّى، وأن تصطحب معها ابنها إلى ساحات الثورة، بمبادرة مميّزة لفتى متوحّد.
تروي فاتن لـ”أساس” كيف تخلّت عن “دورالأمّ الضحية”، وأصرّت على نشر رسالة مباشرة ساعدت ابنها، وكيف فرضت على المحيط أنّه “حالة طبيعية، مثله مثل أيّ أحد من أترابه”.
رفضت الأم فكرة أن يثير مرض ابنها شفقة الناس، وأبت على أن يُحكم عليه مسبقاً بأنّه من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعجز عن التصرّف بشكل طبيعي، فأطلقت صرختها باسم آلاف أمهات أطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، لتضع قضية ابنها الإنسانية برسم الرأي العام.
تؤكّد فاتن أنّها لم تنضمّ إلى ثورة 17 تشرين منذ اليوم الأول، إذ كان ينتابها شعور الخوف كلّما فكرت كيف ستدمج ابنها مع المتظاهرين والثوّر. هي المهجوسة من التنمّر تجاه ابنها.
أما الابن، فلم يدرك معنى الثورة، ولم يتعرّف على أسبابها. كان يسمع الجميع يردّد كلمة “ثورة”، ويتابع الأخبار على الشاشات، وكان مهتمّاً. وأخيراً استسلمت فاتن أمام إصراره اليومي على الرغبة في المشاركة بالثورة، فنزلت عند رغبته، ورسما معاً العلم اللبناني على كرتونة كبيرة، قبل التوجّه إلى ساحتي رياض الصلح والشهداء. في البدء، تعامل الفتى مع التظاهرات على أنّها مكان يجتمع فيه أشخاص للرقص والغناء. جذبته الأغاني الوطنية، فكان يستمع إليها ويردّد الهتافات مع الحاضرين.
ثم قرّرت فاتن المطالبة بحقوق ابنها وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان. وفي حضرة الثورة، حضرت اللافتات المناسبة من تأليف فاتن ومحمود، وكانت أوّلها: “نطالب بجلسات علاجية مجانية لأطفال التوحّد، ومدارس دامجة مجانية لجميع الحالات الخاصة”.
نجحت مهمة فاتن. أقنعت ابنها أنّ مشاركته بالثورة تعني المطالبة بحقوقه الاجتماعية، فشعر بمسؤولية المشاركة يومياً. في المشهد نفسه، أحبّت فاتن أن تدعم الثوار، وبما أنّ إمكانياتها المادية محدودة، قرّرت أن تعدّ أطباقاً يومياً وتنقلها إلى الساحات بمساعدة محمود.
أدركت أمه أنّ الساحات هي العلاج الأنسب لمرض التوحّد، والسبب محبّة الناس وتعاطفهم بوعي مع محمود
الخطوة كانت إيجابية بالنسبة إلى الفتى الذي تخلّص من وحدته جزئياً، وراح يندمج مع الثوّار، فيتناولون الطعام معاً، ويتشاركون الأحاديث والآراء. لم تتوقّع فاتن يوماً أن يتقبّل ابنها زحمة الناس والأصوات الصاخبة، بل على العكس، كانت المرة الأولى التي لا يقفل أذنيه ويتهرّب من سماع الأصوات.
تصرّف الفتى بشكل طبيعي في مكان يكتظّ بالآلاف، حتّى أدركت أمه أنّ “الساحات هي العلاج الأنسب لمرض التوحّد، والسبب محبّة الناس وتعاطفهم بوعي مع محمود”. ورغم أنها كانت تختار ثلاثة أيام فقط للمشاركة مع ابنها في التجمّعات، إلا أنها قطعت شوطاً مهماً في رحلة علاجه: “الثورة كانت بصيص أمل لنا”.
اليوم، تتحدّث فاتن عن وجعها كأمّ، لكن تشكر “ثورة 17 تشرين، منّي ومن ابني، لأنكِ عرّفتني على نماذج مختلفة من الأشخاص الذين كسروا الصورة النمطية تجاه المصابين بمرض التوحّد، وتعاملوا مع محمود على أنه مواطن لبناني قرّر أن يثور وينتفض كأيّ شخص آخر”.