ستمتدّ مفاعيل عملية “طوفان الأقصى” لسنوات مقبلة، شأنها شأن العمليات والحروب العسكرية كلّها. ستفتح سجالاً جديداً يضاف إلى سجالات النكبة الفلسطينية. هذا السجال سيكون ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنيّاً وعسكرياً.
كان يُنتظر لهذا السجال في لبنان أن يبدأ بعد سكوت الميدان وصعود السياسة. لكنّ ما حصل العكس، فقد تظهّر بشيء من الشعبوية الإعلامية. والسيّئ فيه أنّه كشف عن غياب مسيحي عميق عكس تاريخ المسيحية في هذا الشرق.
تشكّل السجال من طرفين وقفا على نقيض بعث تناقضات لبنان الأصلية:
ـ الأول صفته لبنانويّ ـ مسيحي يعتقد بإمكان تحييد البلد. واللبنانوية هذه عتيقة ودائماً ما أخذتها انطوائيّتها إلى خسارات ساحقة. الآن تكرِّر ماضياً رهيباً إنّما بضياع سياسي، أو قل بتيه سياسي سببه تصارع “أهل البيت” على التكتيك والاستراتيجية في آنٍ.
ـ الطرف الآخر في السجال هويّته إسلامية بجناحين شيعي وسُنّي. سمتهُ مغالية. تطرّف مُطالباً وعاملاً على دخول لبنان الحرب. لبنان المراد له هذه المعركة كاد يسقط من مرتبة الساحة بعدما فقد منذ زمن صفة الدولة إلى صفّة المشاع السياسي والعسكري.
تحوّل السجالان بسرعة قياسية إلى ارتداد الطوائف إلى غيتواتها. الأوّل واهم بالحياد والتحييد غافلاً الجغرافيا والتاريخ، وكان جوهره مسيحياً سياسياً عموماً ومارونياً خصوصاً. الآخر كان إسلامي الهويّة والأهداف. انعقد لواؤه بين جناحين: سُنّي وشيعي.
صحيح أنّه حمل شيئاً من طبيعة المنطقة العربية. لكنّ الأصحّ أنّه كان مُشبعاً بفوائض الإسلامين التركي والإيراني عبر امتداداتهما العربية.
طبيعة العملية ونتائجها دخولاً من غزّة إلى الأرض المحتلّة رفعتها إلى مستوى التحوّل الاستراتيجي في طبيعة الصراع مع إسرائيل. لم يعد الصراع عنوانه: العربي ـ الإسرائيلي. دخل إليه وعليه معطى من طبيعة إسلامية. فكان أن هضم “العروبي” من طبيعته. هذا أثار قلق الموارنة. قلقهم دفعهم إلى مغامرات مُغايرة لتاريخهم.
الثابت الوحيد بعد هذه العملية أنّ القضية الفلسطينية عادت إلى صدارة الأحداث. كانت نسياً منسيّاً. الآن هي أمّ الأحداث والقضايا، في العالمين الواقعي والافتراضي. النقاشات فيها والخلافات عليها. الناس حولها منقسمون بين مؤيّد، وشاجب، وغير مكترث. وكما في كلّ بقاع الدنيا، كذلك في لبنان. لكنّها هنا، عندنا في لبنان، تأخذ بعداً آخر، لشدّة تداخل تواريخ القضية الفلسطينية من مهدها حتى لحظتنا هذه، مع تواريخنا اللبنانية، جماعات وطوائف وأحزاباً وأحزاناً.
في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، نبدأ بسرد تاريخي نقدي حول علاقة المسيحيين والموارنة بالفلسطينيين وفلسطين، منذ ما قبل ولادة إسرائيل، من ميشال شيحا ونجيب عازوري وصولاً إلى سعيد عقل والرحابنة ويمنى الجميّل…
***********************
صدر تصريحان لافتان من شخصيّتين مسيحيّتين. هما تحديداً مارونيتان. لهما ما لهما من قبول ورفض في الأوساط اللبنانية الشعبية والسياسية. تصدّرا المشهدين الواقعي والافتراضي بلبنان، في أيامنا هذه التي تُفلتها إسرائيل من كلّ عقال، وهي تردّ على عملية “طوفان الأقصى”.
بين الموارنة والفلسطينيين ما لا يرأب صدعه غير الزمن. بينهما دم كثير. وبينهما شوكة للأُول يعزون كسرها إلى الأخيرين. على الرغم من ذلك، بدت لافتةً تغريدة يمنى الجميّل
– الأوّل صدر من رئيس جهاز الإعلام في القوات، شارل جبور، في معرض تظاهرات التضامن مع الحرب في فلسطين والتظاهرات التي وصلت إلى عوكر “المسيحية” الهويّة ديمغرافياً وجغرافياً. جبور الذي لا ينطق عن هوى في تنظيم حديدي كحزب القوات الذي ينتسب إليه ويتناسل منه، قال عبارات عمومية من نوع “طلع ديننا منكم” و”ما بتشبهونا”… إلخ، وهو ما دفع كثراً إلى اتّهامه بالعنصرية واستنكار قوله ورفضه. بدت شريحة واسعة من المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، فرحة بما نطق به جبور.
كان كلام القيادي القواتي يقول إنّ هناك شريحة واسعة ومهمّة أسيرة ماضٍ أثبتت عملية “طوفان الأقصى” أنّه لا يمضي. هذه الشريحة القواتية التنظيم أو الميل والتأييد هي مع الفلسطينيين على مثال بعض من في السلطة الفلسطينية الراهنة التي تعتقل فلسطينيين بناء على طلب إسرائيل.
الشريحة هذه حزباً وجمهوراً ونبضاً شعبوياً مع حركة “فتح” بعد الرئيس الشهيد ياسر عرفات (أبو عمّار). هي مع “فتح” التي يمثّلها كثيرون لا يقيمون في الأراضي المحتلّة إلا متى كانوا قادةً أمنيّين. القوات ومعها هذه الشريحة لا تعترف بغير منظمة التحرير ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني. يقول الواقع غير ذلك، فمن هم خارج المنظمة من فصائل وقوى وتيّارات بلغوا ما لا يمكن إنكاره من حجم وتمثيل شعبيَّين.
ـ الموقف الثاني كان من يمنى الجميّل، نجلة بشير الجميّل رئيس الجمهورية الراحل ومؤسّس ورئيس القوات اللبنانية، وتترفّع فيه عن الأحقاد والماضي الدموي لتعلن تضامنها وتعاطفها مع كلّ اللبنانيين “على مساحة 10,452 كلم مربّع” متى وقعت الحرب، شريطة عدم زجّ لبنان في المعركة. موقفها هذا بدا مميّزاً وإنسانياً ومتعالياً على جراح كثيرة، حتى إنّه استدرج خصوم والدها كلّهم إلى ساحتها مادحين ومثنين على جرأتها وشجاعتها.
في الموقفين ـ المشهدين الكثير من السوسيولوجيا التي تكشف الجماعات الأهلية وأنماط تفكيرها كوحدات موحّدة، أو حتى عندما تتباين مع ذواتها. من يُفترض أنّهم يحفظون ابنة “البشير ـ الحلم”، من الحلفاء، استُثيروا حتى شتمها على وسائل التواصل الاجتماعي. البعض طالبها بحذف التغريدة. البعض الآخر استثار تواريخ أهلية تنضح دماً وقتلاً على الهويّة. بين البعضين ثمّة من أعلن خروجها على الأهل والجماعة، أي الموارنة، وهي من أقحاحهم تناسلاً وإيماناً كنسيّاً.
الانقسام حول فلسطين وعليها، في لبنان، وخاصةً في صفوف المسيحيين، وتحديداً الموارنة منهم، عمره من عمر النكبة. مؤيّدوها تاريخيون. ومعارضوها كذلك. وصل مؤيّدوها في تأييدهم إلى أقصى السلاح والدم، وإليهما وصل معارضوها أيضاً
المارونيّة السياسيّة والفراغ
بين الموارنة والفلسطينيين ما لا يرأب صدعه غير الزمن. بينهما دم كثير. وبينهما شوكة للأُول يعزون كسرها إلى الأخيرين. على الرغم من ذلك، بدت لافتةً تغريدة يمنى الجميّل.
تغريدة الجميّل عملياً هي شيء طفيف من السياسة. الأدقّ أنّها على ضفافها، ولا تقع في متنها، إلا متى تقدّمت السيدة الجميّل أكثر. وهذا ليس ضمن قدرتها الراهنة على الأقلّ. ولا يبدو أنّ هناك من سيلاقيها من الضفّة الأخرى ممّن ما يزال يُعادي الشريك المسيحي ـ الماروني، استناداً إلى قراءة سياسية مبتسرة لتاريخ بشير الجميّل لا تأخذ في الحسبان سيرة الرجل وتطوّره.
وحده وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي سابقاً وخصم أبيها وحليف الفلسطينيين التاريخي تنبّه للخطر الذي آلت إليه أحوال المسيحية والمسيحيين مجدّداً ودوّامة الفراغ السياسي التي دخلوها، فاتّصل بها ليشيد بموقفها، إذ وضعت الوحدة الوطنية فوق كلّ الخلافات، وهو ما يحتاج إليه لبنان في هذه المرحلة المصيرية الصعبة.
يعكس التصريحان الحالة السياسية التي وصل إليها المسيحيون عموماً، والموارنة على وجه الخصوص. التصريحان عكسا بوضوح الفراغ السياسي الذي يعيشونه، في أوقاتنا هذه التي تشغر فيها المراكز المسيحية الأولى والقيادية والحسّاسة، من رئاسة الجمهورية، إلى حاكمية مصرف لبنان… وربّما إلى قيادة الجيش قريباً.
طرف ينأى ويتضامن قلبيّاً. وآخر ينأى بموقفه بعيداً حدّ محو كلّ شبه، وكلّ وشيجة قربى، مع الفلسطينيين وحلفائهم، ومع فلسطين.
ظرف إقليمي حسّاس ومصيري، وظرف داخلي أشدّ حساسيةً وأكثر مصيريةً، يبدو بينهما الموارنة بلا خريطة طريق، وبلا مشروع، وأحياناً كثيرةً بلا هويّة.
انقسام تاريخيّ
الانقسام حول فلسطين وعليها، في لبنان، وخاصةً في صفوف المسيحيين، وتحديداً الموارنة منهم، عمره من عمر النكبة. مؤيّدوها تاريخيون. ومعارضوها كذلك. وصل مؤيّدوها في تأييدهم إلى أقصى السلاح والدم، وإليهما وصل معارضوها أيضاً.
هذا في العسكر والأمن والثورة. أمّا كتابةً وفكراً وشعراً وأغنيات وألحاناً، فحدّث ولا حرج: ترك المسيحيون اللبنانيون تراثاً في هذا المضمار لم يخطّه شعب، حتى الشعب الفلسطيني نفسه، من نجيب عازوري وميشال شيحا وصولاً إلى سعيد عقل والرحابنة.
الموارنة وفلسطين
ما تزال كتابات المفكّر والاقتصادي الشهير وأحد الساعين إلى صياغة لبنان ميشال شيحا عن فلسطين، دولةً واقتصاداً وفكراً ودستوراً وقوانين، راهنةً إلى أيّامنا هذه، بل هي الأكثر راهنيةً من كلّ قريناتها.
ما زلنا إلى الآن، كلّما وقع اعتداء في فلسطين وعليها، نلوذ بكلمات سعيد عقل التي تغنّيها فيروز في “زهرة المدائن” التي “ترحل عيوننا إليها كلّ يوم”
في 5 كانون الأول 1947، كتب ميشال شيحا عن فلسطين في جريدة “لوجور” الفرنسية، وشرح في مقالته خطر الكيان الصهيوني على العالم قائلاً إنّ “قرار تقسيم فلسطين لإنشاء الدولة اليهودية لَمِن أضخم الأخطاء في السياسة المعاصرة”، وإنّ “أمراً كهذا، وإن بدا يسيراً في الظاهر، فلسوف تستتبعه عواقب غير متوقّعة، وليس من باب امتحان العقل إذا قلنا إنّ هذا الحدث الصغير سيسهم في زعزعة أسس العالم”.
بدا الرجل سابقاً عصره ومجايليه من العروبيّين بكثير.
لا يتوقّف التنبّه الماروني والتنبيه إلى ما جرى ويجري في فلسطين عند ميشال شيحا. سبقه نجيب عازوري، بل سبق الجميع إلى التنبيه من الخطر المحدق بالمنطقة، وممّا يحاك ضدّ فلسطين تحديداً، في كتابه الشهير الصادر عام 1905 في باريس بعنوان “يقظة الأمّة العربية”.
يقول عازوري في كتابه: “هناك ظاهرتان لهما نفس الطبيعة، غير أنّهما متعارضتان لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتوضّحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية، وأعني بهما: يقظة الأمّة العربية، وجهد اليهود الخفيّ لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع. إنّ مصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى. وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثّلان مبدأين حضاريّين، يتعلّق مصير العالم بأجمعه”.
أبعد من ذلك، ما زلنا إلى الآن، كلّما وقع اعتداء في فلسطين وعليها، نلوذ بكلمات الأخوين الرحباني التي تغنّيها فيروز في “زهرة المدائن” التي “ترحل عيوننا إليها كلّ يوم”.
ما يزال صوت الرئيس سليمان فرنجية في الأمم المتحدة عام 1974، وهو يحمل القضية الفلسطينية إلى أرفع منبر عالمي ذائداً عن حقّها وحقّ الفلسطينيين، يتردّد حتى لحظتنا هذه.
على الرغم من ذلك، اندلعت الحرب بين الفلسطينيين والميليشيات المارونية في لبنان، حتى باتت “طريق فلسطين تمرّ من جونية” على قول القائد الفلسطيني الشهير، واستقلال لبنان لا يتحقّق إلا برحيلهم، كما ردّد الموارنة مجتمعين ومتفرّقين.
إقرأ أيضاً: ما علمه المسيحيّون وذاقوه
الموارنة والفلسطينيّون
في لحظة يسودها ارتياب سياسي ممّا ستؤول إليه المنطقة برمّتها، وهي لحظة سيُعاد فيها ترسيم واقع القوى فيها على ضوء عملية “طوفان الأقصى” ونتائجها السياسية، يبدو الموارنة أسرى فراغ لا يعرفون للخروج منه سبيلاً.
دعك من النتائج العسكرية التي ستكون كارثيةً في ظلّ ثأرية إسرائيلية مُرعبة، وأرجحية إسلامية يغلب عليها الاستثمار السياسي، وتنهض على طرفَين: الأوّل تركيا، وأمّا الثاني فإيران. المشهد المثلّث الأضلاع هذا بالغ السوء.
ما يزيده سوءاً هو الارتباك العربي الذي لا يمكن توريته تحت أيّ عنوان من العناوين. ارتباك تبدّى منذ لحظة 7 تشرين حتى لحظتنا هذه، مترافقاً مع نفور عربي ـ غربي. الخطير في هذا النفور أن لا تبرير له. دعم الولايات المتحدة وأوروبا لإسرائيل منقطع النظير. لم تلقَ مثله حتى في حرب تشرين 1973. إسرائيل قامت عملياً، واستمرّت 75 عاماً، على هذا الدعم. وعلى هذا الدعم أيضاً قام الموارنة، في تاريخنا الحديث والمعاصر.
في الحلقة الثانية غداً: طريق بعبدا تمرّ بغزّة؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@