القطاع المصرفي يصغر: أين اختفت 29 مليار $ خلال سنة؟

مدة القراءة 6 د


ثمّة ما يستحق التوقّف عنده في آخر أرقام ميزانيّات القطاع المصرفي اللبناني، خصوصاً من ناحية التحوّلات في حجم القطاع والدور الذي يمارسه حالياً على مستوى الاقتصاد اللبناني، وهو ما سينعكس حكماً على مستقبل القطاع وهيكليّته، خصوصاً على عدد الفروع والمصارف العاملة في لبنان.

فبحسب آخر أرقام الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة، يتبيّن أنّ حجم الموجودات الإجمالي للمصارف انخفض في نهاية شهر آب الماضي إلى حدود 195.71 مليار دولار أميركي، بعد أن كان حجم هذه الموجودات يبلغ حوالي 261.9 مليار دولار في الفترة المماثلة تماماً من العام الماضي. بمعنى آخر، خسرت المصارف اللبنانيّة خلال عام واحد فقط ما تقارب قيمته 66.19 مليار دولار من الموجودات، أو ما يوازي ربع الموجودات التي كانت تملكها المصارف. ويمكن القول إنّ المصارف اللبنانيّة تمارس منذ عام عمليّة تصفية ذاتيّة، حجّمت من خلالها حجم الميزانيّات والقطاع ككل.

إقرأ أيضاً: 22 تريليون ليرة “ضائعة”… احتكار أم تحضير للّعب بنار الدولار؟!

الدخول في تفاصيل الأرقام يعطي فكرة أوضح عن مصدر هذا التراجع. فحجم الودائع الإجمالي انخفض مثلاً إلى نحو 148 مليار دولار حتى نهاية شهر آب، مقارنة بنحو 177 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي. وبذلك، خسرت المصارف خلال سنة واحدة 29 مليار دولار. وعمليّاً، يعكس هذا الانخفاض ظاهرتين بدأتا بالتزامن مع حصول الانهيار المالي في شهر تشرين الأول الماضي. الأولى هي عمليّة سحب الودائع المقوّمة بالدولار الأميركي، سواء بالدولار النقدي وفقاً للسقوف التي حدّدها كلّ مصرف في أولى الأشهر التي تلت الانهيار، أو بالليرة اللبنانيّة وفقاً لتعميم مصرف لبنان رقم 151، بعد توقّف المصارف عن السماح بسحب الدولارات نقداً. أما الظاهرة الثانية، فهي لجوء أصحاب الودائع لشراء العقارات بالشيكات المصرفيّة من أصحاب الديون المصرفيّة، الذين استفادوا من هذه الشيكات لسداد ديونهم المتراكمة في المصارف. بمعنى آخر، استُعملت الودائع لإطفاء الديون، وهو ما أدّى إلى تحجيم ميزانيّات المصارف من ناحية الودائع والقروض معاً.

أكثر التحوّلات المثيرة للقلق والإهتمام، والتي ساهمت في تحجيم حجم القطاع، هو ما يخصّ الموجودات الخارجيّة، التي تمثّل توظيفات واستثمارات المصارف في الخارج، وحساباتها لدى المصارف المراسلة

في الواقع، يمكن تلمّس أثر هذه الظاهرة بالتحديد عند مراجعة حجم القروض المصرفيّة، التي انخفضت إلى نحو 62.65 مليار دولار في نهاية شهر آب الماضي، بينما كان حجم هذه القروض يوازي نحو 92.61 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي، وهو ما يعني أنّ حوالي 48% من القروض المصرفيّة جرى سدادها خلال سنة واحدة فقط. لكنّ هذه الأرقام لا تعكس فقط أثر ظاهرة استعمال الودائع لسداد القروض، بل تعكس أيضاً تحوّلاً كبيراً في دور المصارف اللبنانيّة ونوعيّة عمليّاتها، وتحديداً من ناحية توقّفها كليّاً عن منح أيّ شكل من أشكال القروض المصرفيّة، وتوجّه أقسام التسليف فيها إلى عمليّات تحصيل القروض الممنوحة حصراً، وهو ما يكرّس فكرة اتجاه المصارف إلى عمليّات التصفية بشكل أساسي.

أما أكثر التحوّلات المثيرة للقلق والإهتمام، والتي ساهمت في تحجيم حجم القطاع، فهو ما يخصّ الموجودات الخارجيّة، التي تمثّل توظيفات واستثمارات المصارف في الخارج، وحساباتها لدى المصارف المراسلة. علماً أن هذه الموجودات بالتحديد تمثّل المصدر الوحيد المتبقّي للسيولة التي تستخدمها المصارف لتوفير الدولار النقدي ولسداد التزاماتها في الخارج أو إجراء التحويلات، خصوصاً كون الاحتياطات القابلة للاستخدام من العملة الصعبة في مصرف لبنان شارفت على النفاد، وهي مخصّصة لدعم استيراد السلع الأساسيّة حصراً . هذه الموجودات الخارجيّة، انخفضت إلى نحو 13.58 مليار دولار في آب الماضي، فيما كان يبلغ حجمها نحو 21.62 مليار دولار قبل سنة واحدة بالضبط، وهو يعني أنّ المصارف خسرت خلال سنة نحو 37% من موجوداتها الخارجيّة.

أهم ما في الموضوع الآن، فهو السؤال عن مستقبل القطاع. فتحجيم دور المصارف من ناحية ابتعادها اليوم عن أعمال التسليف والخدمات المقدّمة للشركات التجاريّة، وتراجع حجم ميزانيّاتها وعمليّاتها، سينعكس حتماً على عدد موظفيها وفروعها وحتّى على عدد المصارف العاملة في لبنان

وفي الخلاصة، أدّت كلّ هذه العوامل مجتمعة إلى خسارة المصارف ما يقارب ربع موجوداتها خلال 12 شهراً، لكنّ الخبراء الماليّين يشدّدون على أنّ التراجع لن يكون نهاية المطاف بالنسبة إلى المصارف اللبنانيّة. فخلال الفترة المقبلة، سيكون على المصارف احتساب الخسائر الناتجة عن تعثّر الدولة في سداد سنداتها ضمن ميزانيّاتها، وعلى مراحل. ورغم أنّ مصرف لبنان قدّر نسبة هذه الخسائر بنحو 45% من قيمة سندات اليوروبوند، من المفترض أن تحدّد مفاوضات الحكومة مع المصارف نسبة الاقتصاص الفعليّة من قيمة سندات اليوروبوند بالإضافة إلى السندات المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، وهو ما سيؤدّي إلى المزيد من التراجع في حجم موجودات القطاع. أما عمليّة إعادة الرسملة، فمن المرتقب أن تتمّ من الأموال المصرفيّة نفسها، أي أموال الودائع الموجودة في القطاع، وهذه العمليّة وإن نجحت في تعويم سيولة المصارف من ناحية حجم الرساميل، إلا أنّها لن تفضي إلى أيّ زيادة في حجم القطاع.

أما أهم ما في الموضوع الآن، فهو السؤال عن مستقبل القطاع. فتحجيم دور المصارف من ناحية ابتعادها اليوم عن أعمال التسليف والخدمات المقدّمة للشركات التجاريّة، وتراجع حجم ميزانيّاتها وعمليّاتها، سينعكس حتماً على عدد موظفيها وفروعها وحتّى على عدد المصارف العاملة في لبنان. ولذلك، من المرتقب أن يكون دمج الفروع وعمليات الدمج والاستحواذ بين المصارف التجاريّة عنوان المرحلة المقبلة. مع العلم أنّ العديد من المصارف بدأت أساساً بتقليص عدد فروعها العاملة على الأراضي اللبنانيّة، فيما بدأ البعض الآخر بإعداد الدراسات الهادفة إلى تحديد الفروع التي يمكن دمجها بفروع أخرى. أما عمليّة الدمج والاستحواذ بين المصارف، فستعتمد على معايير إعادة الرسملة التي حدّدها مصرف لبنان، وعلى قدرة المصارف على الامتثال لشروطها وهو الأمر الذي تعمل عليه المصارف الكبرى فقط عبر تسييل موجوداتها الخارجية.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…