“العهد” يصنع الحرب الأهلية المالية: الدعم من أموال المودعين

مدة القراءة 7 د


ثمّة معادلة دنيئة تُطرح على اللبنانيين للاختيار: إما أزمة جوع يسبّبها رفع الدعم، أو استمراره بما تبقى من أموال المودعين. هي معادلة بدناءة التبشير بحرب أهلية “مالية”، تضع أفواه الجائعين في وجه أصحاب الودائع.

تخرج إحدى صحف “السلطة العميقة” لتضخّ بإلحاح في العديد من المقالات زعماً عجيباً بأن رفع الدعم لا يهدف سوى لإنقاذ أموال “كبار المودعين”. وكأن صغار المودعين لا يعارضون الاستيلاء على ما تبقّى من ودائعهم، أو كأن كبار المودعين مهدور حقهم من البروليتاريا. تقول الصحيفة في معرض التحريض: إنّ أعضاء المجلس المركزي في مصرف لبنان المعارضين لمدّ اليد على ما تبقّى من احتياطات “عتلوا همّ” عدد من المودعين، و”لم يهابوا جوع أكثر من 6 ملايين إنسان”! إنها “النيو- شيوعية”.

وكما كان واضحاً من اجتماع رئيس الجمهورية ميشال عون بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الجمعة، والبيان الصادر بعده، فإن الرئيس يرفض وقف الدعم.

الحلّ برفع الدعم، خصوصاً عن المحروقات، وتحويل الدعم من مصرف لبنان إلى وزارة المالية

ملخّص المشكلة الراهنة أنّ احتياطات مصرف لبنان من النقد الأجنبي لم يتبقّ منها سوى 17.9 مليار دولار، من ضمنها 17.1 مليار دولار احتياطات إلزامية مودعة من المصارف مقابل ما لديها من ودائع العملاء بالعملة الأجنبية. وبالتالي، فإن الدولارات المتاحة للاستخدام في توفير الاعتمادات للاستيراد وفق السعر الرسمي لا تتجاوز 850 مليون دولار، وهو مبلغ لا يكفي سوى لشهر ونصف الشهر وفق الوتيرة المعتادة لتكلفة الدعم في الأشهر الماضية. لذلك، يُطرح على المجلس المركزي في مصرف لبنان اتخاذ قرار بخفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من 15% إلى 12% أو 10% لتحرير 6.4 مليار دولار، وإطلاق اليد في استخدامها لدعم السلع الأساسية من طحين، ومحروقات، وأدوية، ومستلزمات طبية، وسلّة غذائية، لكن مع تقنين هذا الدعم وقصره على قائمة مختصرة من السلع. وقد بدأ شيء من هذا بالفعل مع تقليص قائمة السلع المدعومة المعتمدة من وزارة الاقتصاد لتوفير 130 مليون دولار شهرياً.

المشكلة في هذا الطرح ليس فقط في كونه يبدّد أموال المودعين من أن دون أن يقدّم حلاً لتفادي الجوع سوى لبضعة أشهر، بل في عقم المقاربة نفسها.

هناك سلطة تستقيل من مسؤولياتها؛ لا تقدّم خطة مالية، ولا تعرف كيف تعقد اجتماعاً مثمراً مع صندوق النقد الدولي، ولا تعرف كيف تدير تشكيل حكومة، وترمي كلّ فشلها وضعفها وعجزها على احتياطات مصرف لبنان، وما تبقّى من أموال المودعين. لم يعرف التاريخ الاقتصادي لكوكب الأرض دولةً تموّل شراء المحروقات من أموال المودعين في بنوكها، ثم تقول إنّ البديل عن ذلك هو الجوع.

ثمّة بديل آخر، كان ممكناً في 17 تشرين الأول 2019، وقبله وبعده، هو تشكيل حكومة من أناسٍ، ليس بالضرورة أن يكونوا بروفيسورات أو خبراء أو مستقلين، المهمّ فقط أن يكون في عروقهم دم. بعد ذلك، لا يحتاج الأمر إلى إعادة اختراع علم جديد للسياسة النقدية أو للمالية العامة. يكفي أن يقوم المسؤولون بما هو “صحيح” للحصول على تمويل عاجل للميزان الجاري من صندوق النقد الدولي. قامت بذلك دول كثيرة في المحيط القريب، من مصر إلى الأردن وتونس والعراق، وسواها الكثير.

طريق المعالجة، بعيداً عن كلّ هذا العبث، تبدأ بالاستعانة العاجلة بصندوق النقد، وجهات مانحة أخرى لإعادة التوازن إلى الحساب الجاري، وتوفير شيء من الاستقرار لسعر صرف الليرة، والاستعاضة عن تقديم الدعم عبر السياسة النقدية بالدعم عبر السياسة المالية، أي من وزارة المالية لا من مصرف لبنان.

كيف يلوم فريق رئيس الجمهورية مصرف لبنان على الفجوة في ميزانيته ويعتبرها سبب الكارثة، ثم ينادي بخفض نسبة الاحتياطي الإلزامي لتوسيع الفجوة؟

يتطلّب الأمر إلغاء الدعم، خصوصا عن المحروقات التي تستنرف 300 مليون دولار شهرياً، ثلثها لفيول “كهرباء لبنان”. وكذلك، لا بدّ أن يتوقّف مصرف لبنان عن توفير ما يقارب مئة مليون دولار شهرياً لسداد الفواتير التي تعجز الدولة عن سدادها لغايات الصيانة في مرافق الخدمات الأساسية، من اتصالات وتنظيف ومطامر، لأن مصرف لبنان لم يخلق لهذا. ويتلازم رفع الدعم مع إيجاد شبكة أمان اجتماعية لتعويض الفئات الأكثر هشاشة، ببطاقات دعم من وزارة الشؤون الاجتماعية، ومن ورائها وزارة المالية، أي من السلطة المالية الحكومية، لا من السلطة النقدية.

لكن ما العمل إذا كان البلد ليس فيه سلطة مالية أصلاً، ولا حتى حكومة!

لبنان أكثر دولة في العالم تردّت فيها الأحوال المعيشية خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، وتكاد تكون الدولة الوحيدة التي لم تفعل شيئاً لمنع الفقر. لم تضع قيوداً على خروج الأموال (كابيتال كونترول)، ولم تقرّ خطة إنقاذية، ولم تقدّم شيئاً جدّياً للحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي. وبعد ذلك، يخرج أركانها ليقولوا بمنتهى الوقاحة إنّ الحلّ الوحيد لمنع الجوع، هو أكل أموال المودعين بالباطل.

لم يعرف التاريخ الاقتصادي لكوكب الأرض دولةً تموّل شراء المحروقات من أموال المودعين في بنوكها، ثم تقول إنّ البديل عن ذلك هو الجوع


إنّ مجرّد طرح فكرة خفض الاحتياطي الإلزامي وسط الظروف الراهنة هو بحدّ ذاته فعل زندقة مالية.  فمصرف لبنان يواجه أزمة ملاءة وجودية، تتجلّى بتجاوز الفجوة في ميزانيته 50 مليار دولار. وأيّ خفض للاحتياطي الإلزامي سيخفض حجم الموجودات الأجنبية، ويزيد الفجوة في ميزانية مصرف لبنان.

وإذا كان فريق رئيس الجمهورية يلوم مصرف لبنان على هذه الفجوة، وينادي بالتدقيق الجنائي لكشف أسبابها، (وهو لوم في مكانه بلا شك)، فكيف ينادي الفريق نفسه بالإمعان في توسيع الفجوة وصرف ما تبقّى من دولارات؟

زدْ على ذلك أنّ الاحتياطات المتبقّية هي كلّ ما يعوّل عليه لإعادة بناء الهيكل المتصدّع. فهذه المحفظة الدولارية ستكون الحاجة إليها ملحّة عند وضع خطة إعادة الهيكلة المثلّثة لمصرف لبنان والقطاع المصرفي والمالية العامة. ولو أنّ إعادة الهيكلة بدأت قبل عام من الآن، لكانت المحفظة أكبر بعشرة مليارات دولار، لكن تأخر السلطة ليس إلا واحدة من خطاياها.

كانت الخطيئة المالية الأولى للعهد، بالتواطؤ والتكافل مع شركاء التسوية الرئاسية، حين زاد الإنفاق الحكومي بشكل مجنون، فأُقرّت سلسلة الرتب والرواتب، وانفجر التوظيف في كلّ اتجاه، وأخذ العهد يعقد التلزيمات ويشقّ الطرقات، وينشر أعمدة الكهرباء في كلّ زاوية من مناطق نفوذه. ولم يجد جبران باسيل بأساً في أن “يبقشش” زميله حسن مراد ببضع مئات من أعمدة الإنارة لطريق عمّيق- مشغرة في البقاع الغربي.

رئيس الجمهورية يعاند رفع الدعم خوفاً من التبعات السياسية، من دون أن يقدّم خطة بديلة أو فكرة أو قراراً، وسيظلّ كذلك إلى أن ينفد الوقت ويقع الانهيار

القصة المتداولة التي لم ينفها أحد، أنّ رياض سلامة زار عون في السنة الأولى من عهده، ووضعه في صورة الوضع النقدي، وصعوبة الاستمرار في تثبيت سعر الصرف. اشتمّ من حول الرئيس رائحة مؤامرة ترمي لتفجير أزمة اجتماعية في وجه العهد، فسمع سلامة كلاماً واضحاً يحذّره من المساس بسعر الصرف إلى أن تنتهي ولاية الرئيس.

ظلّ العبث كذلك إلى أن نفد الوقت، وانهارت الليرة انهياراً منفلتاً من أيّ عقال، وكانت ثورة 17 تشرين.

يرتكب العهد خطيئته المالية الثانية الآن، في مرحلة ما بعد انفراط التسوية. لم يتعلّم الدرس من العناد في تثبيت سعر الصرف، فها هو يعاند رفع الدعم خوفاً من التبعات السياسية، من دون أن يقدّم خطة بديلة أو فكرة أو قراراً، وسيظلّ كذلك إلى أن ينفد الوقت، ويقع الانهيار الاجتماعي منلفتاً من أيّ عقال.

إقرأ أيضاً: المصارف تتسلّط على المودعين.. وترفض الودائع الجديدة

يعاند الرئيس رفع الدعم الآن كما عاند في السنة الأولى من عهده أيّ مسّ بتثبيت سعر الصرف. وكما أدى رفضه السابق إلى انهيار الليرة والاحتياطات غير الإلزامية معاً، فإن رفضه الحالي سيؤدّي إلى انهيار الدعم والاحتياطيات الإلزامية معاً.

أية ثورة بعد ذلك!

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…