أُحاول منذ أيام أنّ أكتب شيئاً عن بيروت وحضارتها وعمرانها واستنارتها ونهضتها وتحرّرها. لكنني لم أستطع أو الأحرى أنني لم أُفلح. كنتُ قد بدأتُ المقالة بالذكرى الأولى لي عن بيروت عندما حصلتُ على الشهادة الابتدائية عام 1961، وارتأى لي والدي أن أدخل المعهد الديني ببيروت، فأتى بي أواخر أيلول في سيارة أُجرةٍ من قريتنا في أعالي جبال لبنان. لكنّ السيارة توقّفت عند المتحف لأنّ “الشارع الوطني” كان ينظّم تظاهرةً حاشدةً من أجل استقلال الجزائر تمتدُّ في شارع المزرعة بغرب بيروت إلى “قصر الصنوبر” بجوار المتحف الوطني حيث السفارة الفرنسية رمز الانتداب الفرنسي الذي جلا عن لبنان عام 1946. وقتها ما كان قد مضى غير ثلاث سنوات على خروج لبنان من حربٍ أهليةٍ “صغيرة” لتنحية الرئيس كميل شمعون عن كرسيّ الرئاسة بعد أن تشبّث بها. مع ذلك عادت بيروت بعد عامين لأداء دورها القومي.
إقرأ أيضاً: مآلات الانهيار.. ومآلات الحياد
ما تابعتُ كتابة المقالة المتعسّرة لشعوري أنها إشادةٌ بأمجادٍ ما أمكن للحاضرة أن تُتابعها منذ الغزو الإسرائيلي عام 1982 وما تلاه من غزواتٍ نخشى أنها كسرت روحها قبل أن تكسر نهوضها وعمرانها في أزمنة الإعمار العربي لبيروت ولبنان أيام الرئيس رفيق الحريري.
أنا لا أعتبر بالطبع استقالة حسّان دياب إنجازاً وطنياً كما كانت استقالة عمر كرامي بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وقتها حصلت الاستقالة تحت ضغط “الشارع الوطني” الجديد، الذي كوَّنه حَدَثُ الاستشهاد. أما اليوم، فإنّ القوى المسيطرة التي أتت بحسّان دياب هي التي ارتأت إزالته، لصالح ترميم، مأمول بالنَفَس بعثت عليه المبادرة الفرنسية. وهي تسويةٌ مستجدةٌ لصالح الحزب وعون وضدّ بيروت وأهلها، وضدّ لبنان وسلامه وحرياته وعمرانه واستقلاله ومستقبله.
أين هو مفتي الجمهورية، و أين هم نواب بيروت، وأين هو موقفهم السياسي الوطني والإنساني من الكارثة؟
ما كانت القوى السياسية اللبنانية التي تُحسبُ على المعارضة على قَدْر الحدث وقدْر التحدّيات. وحده حزب الكتائب وبعض النواب الشجعان، أدركوا ضخامة الكارثة التي تَشاركَ حزبُ السلاح والتيار العوني في صنع أهوالها، لأنّهم يكرهون بيروت وأهلها، ويكرهون لبنان وعيشه المشترك ومعنى وجوده. هؤلاء اعتادوا على الاستفادة من مصائب اللبنانيين من أجل أن تبقى لهم مغارة علي بابا وغنائمها المتمثّلة في السلاح والفساد، والمتنكِّرة للدولة والدستور والعيش الوطني.
ليس غريباً أن يتشبّث أهلُ السلاح وأهل الفساد والإفساد، بأهوال الكارثة ليستمرّوا في التسلّق على الدماء المسفوكة والأنقاض وجثث الضحايا، والتي تعوّدوا على ارتكابها وانتهاكها واستغلالها في لبنان والبلاد العربية الأُخرى!
كلّ ذلك معروفٌ عنهم ومشهور. إنّما الغريب والغريب جداً المواقف السياسية المتخاذلة التي كان قد أنهضها من قبل الاحتلالُ السوري، واستشهادُ الرئيس الحريري.
في مقدمة الغرباء عن بيروت، وعن حياة اللبنانيين وعيشهم وحاضرهم ومستقبلهم: القيادتان السياسية والدينية للمسلمين اللبنانيين. فمنذ الحدث الهائل ما صدر كلامٌ ذو معنى ولا موقف ذو معنى، لا من القيادة السياسية لأهل السنّة، ولا من القيادة الدينية!
أين هو مفتي الجمهورية، و أين هم نواب بيروت، وأين هو موقفهم السياسي الوطني والإنساني من الكارثة؟ وأين هي بلدية بيروت الميمونة؟ البطريرك الراعي روَّعتْه الكارثة وطالب بالتحقيق الدولي، وكان قد طالب قبلها بالحياد والتحييد. بينما لم نسمع كلاماً واضحاً لا من القيادة السياسية لأهل السنّة، ولا من نواب بيروت المنكوبة، ولا حتّى من اتحاد عائلاتها، ولا من جمعياتها ومنتدياتها. المدينةُ مدينتكم أيها الناس. والشهداء شهداؤكم. وها أنتم لا تتّخذون موقفاً سياسياً نبيلاً أو شجاعاً أو إنسانياً باستثناء الدوران حول الأنقاض التي فجّرها سلاح الحزب، وفجّرها فسادُ العهد في وجه كل اللبنانيين!
عام 2008 وبعد احتلال ميليشيا الزعيم لبيروت، استمررتم في تشكيل حكوماتٍ معه، واستمرّ هو في قتلكم وانتهاك حرمات مدنكم وإنسانكم، وأخشى أنكم تريدون اليوم العودة إلى سيرة الذلّ والمهانة، كأنّما لم يحصل لبيروت ولبنان انتهاك أو تخريب.
عليكم أربعة واجبات الآن واليوم وليس غداً: المطالبة بالتحقيق الدولي في جريمة تدمير بيروت، والاستقالة من مجلس النواب، والمطالبة باستقالة رئيس الجمهورية، وعدم التنطّح لتشكيل حكومةٍ مع حزب السلاح
أول الواجبات علكيم يا زعماء المسلمين، يا زعماء بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع وعكار وجبل لبنان، هو الاستقالة من مجلس النواب، كما فعل الشرفاء وذوو الإحساس السياسي والإنساني. وستقولون (وقد قال البعض): لكّننا لا نريد إخلاء الساحة للقوى الأُخرى والبلاد مقبلةٌ على تغيّرات كبرى!
أيها السنّة، أيها الدروز، أيها المسيحيون الوطنيون اللبنانيون الأقحاح: من يستطيع اتخاذ أي قرارٍ مهما صغُر في غياب السنة والدروز والمسيحيين الوطنيين؟! والاستقالة هنا ليست غياباً، بل هي حضورٌ على أشدّ ما يكون الحضور. أنتم أيها السُنّة والدروز مع غير العونيين من المسيحيين ثلثا لبنان اليوم حتّى من حيث العدد. ثم لقد كنتم أكثريةً في مجلس النواب قبل العام 2018، ومع ذلك ما كان عون ليرأسكم لولا التوقيع، وهذا القانون الأشوه للانتخابات ما كان ليسري لولا توقيعكم. لقد كان ينقصكم دائماً سلاح الموقف، في وجه سلاح الرشاش والخنجر ومغريات المناصب ومناعم الفساد!
هذا اليوم له ما بعده على بيروت ولبنان، بل والبلاد العربية الأُخرى الواقعة تحت الأسنّة الإيرانية والتركية. وكما لن ننسى لكم تخاذلكم البالغ حدَّ الخيانة لأنفسكم ومواطنيكم في تفويت وتمزيق حكم العدالة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو الاغتيال الذي صيَّركم زعماء؛ لن ننسى لكم هذه المصيبة الجديدة التي توشكون أن توقعوا فيها بلادكم وشعبكم وإنسانكم. ما عدتم قادرين على القيادة من زمان، ولكن يكون عليكم لكي ينسى تخاذلكم وفشلكم: قبول الجديد والتمهيد له بالانتصار لأهداف وبدائل شبّان الثورة، والجدّيين في طوائفكم.
عليكم أربعة واجبات الآن واليوم وليس غداً: المطالبة بالتحقيق الدولي في جريمة تدمير بيروت، والاستقالة من مجلس النواب، والمطالبة باستقالة رئيس الجمهورية، وعدم التنطّح لتشكيل حكومةٍ مع حزب السلاح، ومع العهد المتنكّر للدستور والعيش الوطني. لا تقولوا إنكم تخافون من الفوضى. فالفوضى الهائلة حدثت أثناء مشاركتكم الميمونة في دعس رقاب اللبنانيين بحذاءَي الزعيم الهاجم والجنرال النائم. زعمتم أنّكم رضيتم بالمهانة من أجل الاستقرار وملء الفراغ في المؤسسات الدستورية، وها هو الوطن مضطرب أشدّ الاضطراب، والفراغ يسود في المؤسسات الدستورية بالذات!
تحيةً لمروان حمادة ولسامي الجميل ونديم الجميل والياس حنكش ونعمة أفرام، وميشال معوّض، ولبولا يعقوبيان، وهنري الحلو، وللنواب الآخرين الذين سيستقيلون بعدهم، وكلّ الشرفاء الذين اتخذوا موقفاً وسيتخذون، وهم يتكاثرون… والثورة مستمرة بفضل همّة الشباب والحمد لله.
الوطن يحتاج إلى رؤوسٍ على قامات، وليس لأجسادٍ بدون رؤوس. أهل القامات والرؤوس اتخذوا موقفاً وطنياً كبيراً ولم يخافوا، أما للذين يخافون فيستبدلون بحياة المواطنين وحريات الوطن وجمهوريته، الرئاسات والمغانم، فنقول: كفى بالأجَل حارساً!