“الأزهر في لبنان لا يزهر”، عبارة قالها العلامة البيروتي الكبير الشيخ مختار العلايلي لصديقه زكريا البابا. كانت كفيلة أن ترسم البداية لحكاية شيخ اسمه أحمد البابا. كان والده من تجار بيروت المعروفين في شارع المعرض، وتجارته كانت بالأحذية ومتجره محطة للعديد من العلماء وفي مقدمتهم إمام الجامع العمري الكبير الشيخ مختار العلايلي ومعه الشيخ أحمد العجوز والشيخ سعد الدين عيتاني. دائماً كانوا معاً، إما في المسجد وقت الصلاة، أو في المتجر عند الحاج زكريا. وكانت كلمة الشيخ مختار لا تردّ، فهو العالم الرباني ورجل يثق به الجميع”.
بناء للنصيحة التي تلقاها والده الحاج زكريا، انتقل الشاب أحمد البابا إلى دمشق لمتابعة دراسته الشرعية في معهد الفتح، الذي يديره الشيخ الدمشقي محمد صالح الفرفور. فالصبي ابن الأحد عشر عاماً والمولود في 22 نيسان 1956 وجد نفسه مع مجموعة من الفتيان منهم صلاح الدين فخري، وزكريا غندور مغادراً إلى دمشق لدراسة الشريعة.
نصيحة الشيخ مختار التقت مع أمنيات الفتى. فابن المقاصد كان يتقدّم زملاءه في مدرسة “أبو بكر الصديق”. في تلاوة القرآن الكريم والإنشاد والخطابة في الاحتفالات الدينية، بمناسبة المولد النبوي الشريف وشهر رمضان المبارك. وعندما سأله مرة أستاذه في المدرسة، ماذا تريد أن تفعل عندما تكبر؟ قال دون تردّد: “أريد أن أكون شيخاً”.
إقرأ أيضاً: المفتي الشيخ حسن خالد (2/1): الشخصية والرسالة والخير العام
في دمشق، لم يكتفِ أحمد البابا ورفاقه بدروس المعهد. بل تواصلوا ودرسوا عند كبار علماء المدينة وأهم المراجع الفقهية وتفسير الحديث كالعلامة الشيخ محمود الرنكوسي، وإمام الجامع الأموي الشيخ عبد الرزاق الحلبي، وشيخ قرّاء دمشق الشيخ الدكتور محمد حلواني، والشيخ إبراهيم اليعقوبي، والشيخ أديب كلاّس، والشيخ أبي حامد القتابي.
مع بداية الحرب اللبنانية، انتقل الشيخ أحمد البابا ورفاقه من دمشق إلى القاهرة قاصدين الأزهر الشريف، ليتخرّج منها حاملاً الإجازة الجامعية في العام 1980، ثم شهادة الدبلوم من جامعة أم درمان ودبلوم في السياسة الشرعية من كلية الشريعة والقانون. قبل أن يعود إلى بيروت، حيث كان بانتظارهم مفتٍ شاب اسمه الشيخ حسن خالد، يبحث عن مشايخ من الشباب يمكنه الاعتماد عليهم في إدارة شؤون الطائفة.
ويروي هنا الشيخ البابا فيقول: “منذ عودتنا إلى بيروت، قام المفتي الشيخ حسن خالد باحتضاننا فتمرّسنا معه في التضحية. وما يميّز المفتي الشهيد انه يجيد اختيار الرجال وبناء الرجال، فعلّمنا كيف لا نهاب أحداً في قول كلمة الحق، فلم يكن لنا سقف في مواقفنا، وكنا نتعلّم منه البذل والتضحية وطريقة التفكير للنهوض بالأمة، لقد كان تغيير الأمة مسؤوليته والنهوض من أولى واجباته..”.
رافق الشيخ أحمد البابا المفتي حسن خالد في أصعب المراحل السياسية التي يعيشها لبنان عامة والسُنّة بوجه خاصّ. كانت مرحلة “تركيع السُنّة” كما يصفها الشيخ البابا ويقول: “كان المناخ السائد في البلد، هو محاولة تركيع أهل السُنّة. مع أنّنا لا نحب أن نذكر كلمة أهل السُنّة، فنحن نقول بأننا مسلمون، لأنّنا نحن أكبر من ملة وطائفة، ولكن كنّا نشهد محاولات لتركيعنا. فالدور الذي كان يقوم به الشيخ حسن خالد في حينه دور رئيس الجمهورية وليس مفتياً للجمهورية، فكان بيته في عرمون قمة تجمع كلّ أقطاب البلد، ودار الفتوى في بيروت مفتوحة للقيادات وملاذاً للناس كلها. من هنا كنّا نشهد يوماً بعد يوم سعياً لتطويعنا أو تركيعنا. عندما عجزوا عن التطويع اتجهوا للتركيع من خلال الإساءات المتكرّرة والمحاولات اليائسة على مدى سنوات عبر ضرب المؤسسات الإسلامية حتى وصلوا إلى مرحلة التصفيات الجسدية”.
.. شهر “نيسان” هو شهر مفصلي في حياة الشيخ أحمد البابا، ففيه كانت ولادته، وفيه كانت المحاولة الأولى لاغتياله.
محاولة اغتيال الشيخ أحمد البابا التي قُيّدت ضدّ مجهول يبدو أنّ رسائلها كانت واضحة
يوم الجمعة 11 نيسان 1986 استيقظ الشيخ البابا كعادته، هو الذي كان يشغل منصب إمام وخطيب “مسجد الفاروق” في منطقة الزيدانية، وقد اعتاد أن يذهب إلى الصلاة سيراً على الأقدام فمنزله لا يبعد سوى مئات أمتار قليلة عن المسجد، ويرافقه كالعادة عدد من الطلبة والمحبين.
كانت الساعة الثانية عشر ظهراً حين خرج الشيخ من منزله مع الرفقة المعتادة، وما إن وصل إلى الرصيف المقابل لمنزله حتى سُمع صوت طلقتين من الرصاص. الشباب صرخوا “الشيخ أصيب..”. والصراخ ملأ الشارع وأبواق السيارات راحت تصمّ الآذان لإفساح المجال لنقل الشيخ إلى المستشفى. هناك أُخضع لثلاث عشرة عملية جراحية. الرصاصتان جاءتا من قنّاص يبعد عشرين متراً وفقاً للتحقيق الأوّلي، وفي القلب مباشرة مع تضرّر عدد من الأعضاء الداخلية التي تمّ استبدالها بأعضاء اصطناعية. ويقول الشيخ البابا: “لقد كانت أياماً صعبة، لكن ما أذكره ولا يمكن أن أنساه صورة الشيخ صبحي الصالح حين زارني بالمستشفى وكنت بحالة مزرية جداً، وأوجاع تأكلني لا تتحمّلها جبال. فبكلّ عملية كانوا يستأصلون جزءاً من جسمي بداية بالطحال والبنكرياس والأمعاء أيضاً ووضعوا لي أمعاء من البلاستيك. فعمليات كبيرة كانت تدوم لساعات حتّى الطبيب كاد يفقد الأمل بعودتي للحياة”. ففي إحدى العمليات قال الطبيب: “الشيخ لن ينجو منها ونسبة النجاح 2 أو 3%. يومها بكى الشيخ صبحي وسأله الدكتور مروان قباني فقال: “هذا المشهد مرعب وأخشى أن يصيبني ما أصابه ولا أستطيع أن أصبر على الألم”.
محاولة اغتيال الشيخ أحمد البابا التي قُيّدت ضدّ مجهول يبدو أنّ رسائلها كانت واضحة ولعلّ في قصتين كلّ الدلائل، الأولى عندما زار المفتي الشهيد حسن خالد البابا لتعزيته بوفاة ابنته التي كانت تعاني من مرض “اللوكيميا” فقال المفتي خالد وسط العديد من الشهود الحاضرين: “محاولة اغتيال الشيخ أحمد واغتيال الشيخ صبحي الصالح رسائل موجّهة لي، وأنا قد فهمت الرسالة، وعرفت المطلوب. لكن أنا لن أفعل ما يرغبون به، ولن أذهب إلى سوريا مهما كلّف الأمر”.
أما الحادثة الثانية فيرويها الشيخ البابا: “في إحدى المرات دخل العميد عصام أبو زكي قائد الشرطة القضائية في حينه إلى غرفتي بالمستشفى وأغلق الباب خلفه على غير عادته، وطلب أن يجلس معي بمفردنا حيث قال لي: إنسَ ما حصل لك. سألته: لماذا؟ فأجاب: إنّ ملفك راح عن طاولتي. فالذي يستطيع أن يصل إلى مكتب عصام أبو زكي معناه أن الشخص غير سهل. وأنصحك بعدم متابعة الموضوع. واختفاء الملف عن مكتبي ما هي إلا رسالة عن تسكير الملف. وأنا أريد منك أن تسكّر هذا الملف لأن الجماعة “مش سهلين”. نحن وصلنا إلى بعض أطراف الخيوط لكن ليس لدينا أية أدلة”.
في الحلقة الثانية غداً: “اغتيال المفتي واللقاء برفيق الحريري”.