يكفي التلفّظ بعبارة “باب التبانة”، كي تختصر حال الفقر الذي يعمّ طرابلس عامّة وهذه البقعة الجغرافية خاصة. أثمان كثيرة دفعتها المنطقة، من الحرب الأهلية، حين اتخذ أهلها خيار المقاومة بقيادة “أبو عربي”، وصولاً إلى جولات وصولات مموّلة سياسياً، على ما يعرف أهالي المنطقة.
في 13 حزيران الجاري تصدّرت “باب التبانة” السبق الإعلامي مجدّداً، وذلك بعد مواجهات بين أهالي المنطقة وبين الجيش اللبناني فجّرها الجوع والتهريب، ما دفع العديد من التحذير من تحويل المنطقة مجدداً لـ”صندوق بريد”.
إقرأ أيضاً: الخندق الغميق (1/2): لعنة الجغرافيا ومهزلة التاريخ
وبعيداً من البؤس الذي ترزح تحته هذه البقعة الجغرافية، فإنّ تاريخها كان مزدهراً. فـ”باب التبانة”، عرفت لأجيال بـ”باب الذهب”، لأنّها كانت محطة اقتصادية مهمّة تضخّ الدم الاقتصادي في مختلف شرايين طرابلس، على ما يقول ابن المنطقة، الباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية، الدكتور أيمن عمر لـ”أساس”.
هذه المنطقة، وخاصة سوق القمح وسوق الخضار فيها، كانت مصدر غذاء لطرابلس وللشمال، وكان يتمّ التصدير منها إلى سوريا.
مع العلم أنّ “باب التبانة”، كانت بمثابة مركز تجاري ضخم، يضم 40 خاناً مخصّصاً لتجهيز وتوضيب وتصدير واستيراد البضائع. منها، إلى جانب سوق القمح وسوق الخضار، خان البطيخ، وخان الأرز، وخان العدس…
بحسب عمر لا يوجد “باب التبانة”، و”جبل محسن”. فجغرافياً المنطقة تندرج تحت مسمى “باب التبانة الكبرى”.
“باب الذهب” الذي تحوّل بفعل الحرب والجولات إلى رماد يهدأ حيناً ويتقّد عنفاً في حين آخر، لم يكن يغلق
كانت باب التبانة مشهورة بالأمن والأمان، قبل أن تصير باباً للفقر، وما يتخلّله من عنف ومن استثمار سياسي للمعوزين والفقراء، في حروب الأثرياء والملياديرات الذين يحمون طرابلس.
“باب الذهب” الذي تحوّل بفعل الحرب والجولات إلى رماد يهدأ حيناً ويتقّد عنفاً في حين آخر، لم يكن يغلق، فالتجار والمهنيون كانوا يشرّعون أبوابهم ليلاً نهاراً. هكذا يختصر مختار باب التبانة الأسبق محمود المعراوي (65 عاماً) اسم المنطقة في حديث لـ”أساس”: “فالأوضاع المادية كانت جيدة جداً، ومناخ العلم والثقافة كان يهمين على المنطقة وأهلها. وكانت الأرزاق آمنة، فإن نسي أصحابها إغلاق القفل، كان الحارس أو أهل المنطقة يتولّون المهمة”.
بأسى وغصّة يروي مختار “باب التبانة” الحالي، محمود الزعبي (65 عاماً)، قصصاً عن المنطقة قبل أن تعصف بها الحرب الأهلية والجولات. “كانت إيام دهب”، يقول الزعبي، مضيفاً: “المنطقة كانت شريان مدينة طرابلس من الملولة حتى سوق القمح. خلوّ المحل في شارع سوريا كان 50 ألف ليرة، في أيام الليرة”، ليعقّب في اللحظة نفسه: “بتعرفي شو يعني 50 ألف؟؟ يعني أهمّ من منطقة الضمّ والفرز”.
لـ”البسطة” أهميتها في شارع سوريا، فهي كانت مدار فخر وتباهٍ بين الرفاق: “نيالك جدك كان عنده بسطة”. كانوا يقولون لبعضهم. أما الشقق فلم يكن مًتاحاً السكن فيها إلاّ للعائلات الثرية، كـ”منقارة، الجسر، كبارة، كرامي، الزعبي، اللبابدي، القبوط..”.
للدرج قصّته في “باب التبانة”. فيتمّ التواصل من خلاله مع بعل الدراويش من شارع سوريا، كما يشكّل صلة وصل بين المناطق والحارات المجاورة. وهناك أكثر من درج، لكن الإعلام لا يذكرها، إذ لم تقع فيها جولات ومعارك.
ليست الحرب الأهلية وحدها التي أنهكت “باب التبانة”، بل تبدّل النسيج الاجتماعي
لكن ما الذي تغيّر في باب التبانة؟!
ليست الحرب الأهلية وحدها التي أنهكت “باب التبانة”، بل تبدّل النسيج الاجتماعي، بحسب ما يقول المختار محمود المعرواي، فـ “99% من أهل باب التبانة اليوم هم الذين وفدوا إليها بعد السبعينات من القرن الماضي. وذلك بعد هجرة أهلها، هجرة صغرى إلى القرى أو مناطق مجاورة وهجرة كبرى إلى خارج لبنان”.
“التبنجية (أهل باب التبانة الأصليون) لا يشكّلون اليوم أكثر من 10% من سكّان المنطقة، وهم باتوا يُعدّون على أصابع اليدين”، يقول المعراوي. ويوافقه الحاج مصطفى معرباني، وهو صاحب إحدى ورش تصليح السيارات في المنطقة، قائلاً: “أكثر ساكني المنطقة اليوم أتوا من خارجها. تغيّرت نوعية السكان. زاد الفقر والانقسام والبطالة، وهناك نسبة أمية كبيرة”.
قصص باب التبانة تُروى دون فاصلة أو نقطة، بحسرة قدمائها الذي شاهدوا منطقتهم تُغتال أمام عيونهم، غير أنّ هذا الاغتيال لم يتوقف، فمخاوف تهمس هنا وهناك، من استغلال هذه الساحة مجدداً.
وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة الثانية..
[PHOTO]