حلّ فيروس “كورونا” كارثة على حكومات العالم أجمع، إلاّ على الحكومة اللبنانية التي وجدت فيه فرصة لا تُعوّض لتمرير كلّ ما يمكنها تمريره في الملف الاقتصادي والمالي، بعيداً عن أيّ رقابة أو محاسبة، مستغلّة غرق العالم كلّه بكوارثه الداخلية وحجر اللبنانيين لأنفسهم في منازلهم.
آخر هذه الإبداعات كان بيان وزارة المالية، أمس، الذي يذكّر بأنّ لبنان سبق وعلّق دفع سندات الـ”يوروبوند” لاستحقاق التاسع من آذار من أجل حماية احتياطي العملات الأجنبية، وللهدف نفسه ونظراً للضغوط المتزايدة، كشف أنّ الحكومة قررت (متى قررّت؟) “التوقف عن دفع جميع سندات يوروبوند المستحقة بالدولار الأميركي”، والبالغة 28,3 مليار دولار وتمتدّ إلى العام 2037 (الأرقام باللون الأحمر يحملها المصرف المركزي).
المستهجن في البيان، أنّ قرار التوقف عن الدفع، نقلته وزارة المالية عن مجلس الوزراء من دون أن يُتلى أو يُنشر ضمن مقرّراته واجتماعاته من قبل. حتّى خطاب رئيس الحكومة حسان دياب الشهير الذي أعلن فيه “تعليق دفع” استحقاق آذار، لم يأتِ على ذكر التوقّف عن “دفع السندات كاملة”، وإنّما ترك باب التأويلات والاستنتاجات موارباً. وعلى هذا، فإن سلوكاً كهذا، يُرسل إشارات سلبية إلى الخارج لا تنمّ إلاّ عن تخبّط وتردّد، ينبئان بحدوث الانهيار.
إقرأ أيضاً: دياب يرفض منح الحاكم صلاحيات بعمر حكومته
البيان دعا إلى “إجراء محادثات حسن نية” بين الدائنين والمستشار المالي للبنان (شركة لازارد) في 27 من الشهر الجاري (بعد 3 أيام)… على أن تُنشر المعلومات الموجّهة إلى الدائنين على الموقع الالكتروني الخاص بوزارة المالية. إذاً، الأمور سائرة نحو خيارٍ من اثنين لم يعودا سراً: الجدولة أو الهيكلة، وعلى الأرجح، فإنّ الخيار الأخير سيُعتمد في نهاية المطاف نظراً لعجز الخزينة وشحّ الموارد. لكن في كلتي الحالتين، الحكومة مقبلة على أزمة كبيرة.
فالجدولة كما الهيكلة تتطلّبان خطة إصلاحية مكتوبة واضحة، ذات مصداقية عالية. خطة قادرة على إقناع الدائنين في قدرة السلطات اللبنانية على السداد مستقبلاً بعد الحسم (في حال الهيكلة)، وذلك ضمن برنامج إصلاحي واضح المسار، يكشف بشكل جلّي لا لبس فيه، أمرين جوهريين يتناولان كيفية البحث عن:
1. إيرادات جديدة من خلال الخصخصة، وفرض ضرائب جديدة، وتعزيز الجباية… الخ.
2. تخفيض النفقات الموجودة من خلال الإصلاح في ملف الكهرباء، ووقف الهدر، وصرف موظفين… الخ.
إلاّ أنّ الحكومة، حتى اللحظة، لا تملك هذا كلّه. تحرّكها يحاكي المثل الشعبي المصري القائل: “يا رب تجي في عينو”. تضع “العربة قبل الحصان”، فتذهب إلى مائدة المفاوضات مع الدائنين في 27 آذار وتعد بالكشف عن الخطة في منتصف أيار، اللّهم إلا إذا كانت تُسرّب للدائنين الخطوات وتستغبي اللبنانيين. بل أكثر من ذلك، فإنّ الأمور بعد فيروس”كورونا” باتت أشدّ تعقيداً، لأنّ الإقتصاد العالمي كما اللبناني باتا مشلولين بالكامل.
هل سيرضى الدائنون بالهيكلة وتخفيض الدين بلا أفق؟ هل سيخاطرون بذلك حتّى يعودوا إلى المحاكم بعد ذلك بسنوات؟
ربما يفوت الحكومة أنّها تطالب الناس بمعايير تخصّ شعوب اسكاندينا?يا فيما تقدّم لهم خدمات في مستوى مجاهل أفريقيا. يفوتها أنّ “كورونا” سيتسبّب لها تباعاً بنفقات طبية هائلة، خصوصاً أنّ التزام الناس بالحجر المنزلي سيبدأ بالانهيار نهاية هذا الأسبوع في ما يبدو. فالناس في حال انهيار اقتصادي قبل فيروس “كورونا” بأشهر مديدة، كما أنّهم أمسوا عاجزين عن تأمين أبسط متطلّبات العيش، الغذائية خصوصاُ، في ظلّ الحجر والتوقف عن العمل. ومن المرجّح أن تزيد هذه النتيجة، الخروج من الجحر، في عدد الإصابات، وستجبر الدولة على الإنفاق في الفاتورة الطبية أضعاف ما تنفق، من دون أن ننسى تراجع إيراداتها التي لن تكون قادرة على تلبية توقعاتها في الموازنة.
في هذا الصدد، يسأل الخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني في اتصال مع “أساس”: “هل سيرضى الدائنون بالهيكلة وتخفيض الدين بلا أفق؟ هل سيخاطرون بذلك حتّى يعودوا إلى المحاكم بعد ذلك بسنوات؟”. ثم يجيب مارديني: “قطعاً لا”، مرجّحاً “ذهاب الدائنين إلى المحاكم من الآن بكامل الدين وليس بجزء منه”، مستخلصاً في المحصّلة، أن تكون الحكومة بسلوكها الحالي قد دفعت الدائنين بيدها صوب هذا الخيار.
متى سيتوجّه الدائنون إلى المحاكم؟
بكّير… كورونا سيقرّر.