لا شك أنّ الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصرالله كان يراقب بدقة وبكلّ التفاصيل التحضيرات التي سبقت، والمحطات التي رافقت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى العاصمة الإيرانية طهران واللقاءات الموسّعة والمتعدّدة التي أجراها مع المسؤولين الإيرانيين، خصوصاً ذلك اللقاء الذي جمعه مع مرشد النظام آية الله السيد علي خامنئي الذي كسر الكثير من البروتوكولات المتبعة في اللقاءات التي يعقدها مع ضيوف طهران، إن لجهة الامتناع عن لقاء أيّ من المسؤولين الإيرانيين أو الأجانب خلال الأشهر الخمسة الماضية مع انتشار جائحة كورونا، وإن لجهة برمجة اللقاء قبل انتهاء الزيارة. إذ من المفترض والمتعارف عليه أنّ مصير أيّ لقاء لضيف مع المرشد الإيراني يتحدّد بناء على نتيجة المحادثات التي يجريها إذا ما كانت متطابقة أو متقاربة مع الأهداف الإيرانية، على أن يكون التقييم في ختام هذه الزيارة. ولم يحصل خرق لهذا البروتوكول سوى مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نتيجة للشراكة التي قامت بين الطرفين في الحرب السورية.
إقرأ أيضاً: بعد 7 آب: “الحزب” على خُطى “الإخوان”
ولا شك أيضاً أنّ الأمين العام يراقب بدقة المشهد الذي فرضته الغارة الإسرائيلية على سوريا عشية زيارة الكاظمي إلى طهران، وما أسفرت عنه من سقوط أحد عناصر الحزب إلى جانب عدد من العناصر الإيرانية، والتحدّي الذي تفرضه هذه الغارة على نصرالله الذي التزم بالردّ على أيّ اعتداء يطال عناصر الحزب في سوريا من الأراضي اللبنانية.
وعلى الرغم من حالة الاستنفار القصوى التي أعلنها الجيش الإسرائيلي على الحدود الشمالية مع لبنان، والحديث عن حالة مماثلة لجأت لها تشكيلات الحزب القتالية، استعداداً للردّ على غارة دمشق، إلا أنّ المشهد الإقليمي وما يرافقه من حراك دبلوماسي واسع تقوم به الإدارة الإيرانية، قد يفرض على الحزب التريّث إلى حين اتضاح الصورة التي يرسمها هذا الحراك ونتائجه التي من المفترض ان تبدأ بالتبلور والظهور في الأسابيع المقبلة.
المسار السياسي هذه المرة ستكون له الأولوية أو التقدّم على العمل العسكري، من منطلق ترجيح المصلحة
هناك منظومة سيطرة يقبض عبرها الأمين العام على مؤسسات الحزب. إذ يعتبر الشخص الوحيد في هرمية الحزب القادر على التحكّم بمسار القرارات على المستويين السياسي والعسكري لاجتماعها في قبضته. وهو يؤكّد الفصل بين المسار السياسي والمسار العسكري والأمني أو ما يطلق عليه “عمل المقاومة”، وأنّ المسار العسكري لم يخضع ولا يخضع بأيّ شكل من الأشكال لتأثيرات المسار السياسي. وبعيداً عن هذه المسلّمة لدى الحزب وقيادته، وفي ظلّ الاعتقاد شبه اليقيني بأنّ القيادة العسكرية بدأت بوضع خططها الميدانية للردّ على الغارة الإسرائيلية، إلا أنّ المسار السياسي هذه المرة ستكون له الأولوية أو التقدّم على العمل العسكري، من منطلق ترجيح المصلحة التي لا تقف عند حدود التزام الحزب بالاستراتيجيات التي حدّدها لعمله في مواجهة إسرائيل، بل تتعدّاها للأخذ بعين الاعتبار مصلحة “المحور” بأكمله ابتداء من طهران وصولاً إلى لبنان. لذلك، فإن الحزب وبموازاة رفع مستوى الجهوزية لوحداته العسكرية على الحدود الجنوبية، قد لا يذهب إلى خيار الردّ السريع، وسيسمح للمسار السياسي بأن يدفع إلى تأجيل الردّ من دون إسقاطه وبما يسمح بالحفاظ على الهامش الاستقلالي للمسار العسكري عن السياسي. على أن يكون التأجيل بانتظار اللحظة المناسبة، وبالتوقيت الذي تحدّده قيادة الحزب، والذي يتوافق مع حسابات المحور، بحيث لا يكون استدراجاً للتوقيت الذي يريده الطرف الآخر – أي الإسرائيلي والأميركي – خصوصاً بعد التطوّر اللاحق على الغارة الإسرائيلية والذي تمثّل بـ”التحرّش” بطائرة الخطوط الجوية “ماهان”، التابعة لحرس الثورة الإيراني، في طريقها من طهران إلى بيروت فوق الأراضي السورية. وبالطبع آخذاً بعين الاعتبار الحاجة الإيرانية وأيضاً الحاجة الداخلية اللبنانية لتوفير الأجواء المؤاتية لاستثمار أو ترجمة ما يمكن تسميته بوادر إنجازات سياسية واقتصادية قد تساعد على تحقيق خرق في جدار الحصار والعقوبات المفروضة على كلا الطرفين.
لا شك أيضاً أنّ الأمين العام يراقب بدقة المشهد الذي فرضته الغارة الإسرائيلية على سوريا عشية زيارة الكاظمي إلى طهران
لا شك أنّ الحالة التي يواجهها حزب الله في لبنان، ومعه النظام الإيراني، هي مرحلة شديدة التعقيد والتداخل. من هنا، فإنّ الرهان على إمكانية تحكّم البعد السياسي بالعمل العسكري. أو بتعبير أدقّ إخضاع العمل العسكري للحسابات السياسية، وتضييق هامش الاستقلالية بين البعدين، يحمل على الاعتقاد بأنّ هذا المحور قد غلّب المصلحة أو البراغماتية على البعد الأيديولوجي. وربما قرّر المحور عدم تقديم خدمات مجانية للمحور الخصم بإشعال حرب محدودة أو موسّعة تطيح بالخطوات التي بدأها في تفكيك دائرة الحصار التي تضغط عليه اقتصادياً واجتماعياً، إن كان في الرسائل التي وجّهها الأمين العام للإدارة الأميركية المتعلّقة بالحفاظ على مساحات الشراكة على الساحة اللبنانية، أو تلك التي برزت خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان إلى بيروت واجتماعه مع مقرّبين من الحزب، أو تلك الاتفاقيات الاقتصادية الضخمة التي بدأت إرهاصاتها بالاتفاق الاستراتيجي بين إيران والصين، والاستعداد لاتفاق مماثل مع روسيا، وعودة الحوار بينها وبين الهند لاستكمال المشاريع الاقتصادية والاستثمارية العالقة. فضلاً عن وجود مؤشرات تتحدّث عن عودة الحرارة على خطّ الحوار بينها وبين الترويكا الأوروبية، والعودة إلى تفعيل آلية “أنستكس” للتعامل المالي للالتفاف على العقوبات الأميركية.
يمكن القول إنه سيكون هناك ردّ على الاستفزازات الإسرائيلية ضد إيران وحزب الله في سوريا وغيرها، وقد يكون قاسياً مترافقاً مع خسائر أو محدوداً ومن دون خسائر بشرية، إلا أنه هذه المرة سيكون خاضعاً للإرادة السياسية وقرارها، والتي ترجّح أن يكون مؤجّلاً غير معجّل.