أمام الرئيس سعد الحريري فرصة وحيدة وأخيرة. وحدها التي تعيده إلى حاضره وحاضنته. وبها يتمكّن من استعادة شرعيته ومشروعيته، باستعادة تفعيل رمزيته ولمّ الشّمل السياسي الوطني والعودة إلى الثوابت. فرصة وحيدة سيكون قادراً إذا ما أحسن التصرّف فيها، للردّ على كلّ الطعنات والضربات التي تلقّاها من خصوم لطالما سلّفهم من حسابه وحساب ناسه وقضيته. فقد وصل إلى مكان لم يعد فيه مجال للمناورة، ولا للتنازل. منذ الانقلاب على حكومته في العام 2011، وهو يسلك طريق التسويات وصولاً إلى فقدان الدور والتأثير. مضمون بيانه الذي دعا إلى سحب اسمه من التداول لرئاسة الحكومة، قادر على تشكيل انقلاب كبير، يعيد له اعتباره ويساعده على تحصين نفسه شعبياً وسياسياً.
إقرأ أيضاً: نهاية عهد… أو نهاية بلد
إنّه انقلاب في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان، يوازي كلّ الانقلابات منذ 7 أيار، وإسقاط حكومته، والتسوية الرئاسية، وإدخاله في صراع على الصلاحيات. صورة واحدة قادرة على محو كلّ تلك الصور الرمادية من ذاكرة اللبنانيين والمؤمنين بالحريرية السياسية. على أن يترافق ذلك مع مسار سياسي جديد ومختلف عن كلّ المسارات السابقة، يتسم بالوضوح، ونبذ السلطة في سبيل القضية، مستنداً على حكم المحكمة الدولية، الذي يفترض عدم المشاركة السياسية في أيّ حكومة مع حزب الله طالما أنّ الحزب لا يزال على منهاجه وتعجرفه.
تكتيكياً أيضاً، نجح الحريري برمي الكرة المتفجّرة في ملعب ميشال عون وحزب الله، حيث ستصطدم توجّهاتهما المختلفة ببعضها البعض
كان واضحاً الهدف من التمسّك بالحريري، وهو إعادة تعويم عهد ميشال عون، والتفاف حزب الله على المحكمة الدولية وحكمها، ومحاولة وضع الحريري متراساً أمام الحزب وعون، بإلقاء كلّ الموبقات عليه وعلى حكومته، كما كان التعاطي سابقاً معه واستمرّ بعد استقالته. الانهيار المستمر، والأزمات المالية والاقتصادية، يُراد لها أن تنفجر بوجهه، إلى جانب عقوبات مقبلة آتية. وهذه معطيات توفّرت لديه من مصادر متعدّدة، وهي التي دفعته إلى حسم خياره بعدم الانخراط في مغامرة كهذه ستؤسّس لإحراقه سياسياً بشكل نهائي واستنزاف ما تبقّى لديه من علاقات خارجية، والقضاء عليها، وإنهاكه شعبياً بشكل نهائي.
تكتيكياً أيضاً، نجح الحريري برمي الكرة المتفجّرة في ملعب ميشال عون وحزب الله، حيث ستصطدم توجّهاتهما المختلفة ببعضها البعض. عون المصرّ على تشكيل حكومة تضمّ جبران باسيل و5 وزراء سياسيين يكونون في عداد وزراء الدولة، إلى جانب 14 وزيراً اختصاصياً أيضاً محسوبين على القوى السياسية. يبقى همّ عون الاهتمام بباسيل وتوفير المظلة والحماية السياسية له إبعاداً لشبح العقوبات.
لم يضع عون بداية الفيتو على الحريري إلا لاستدراجه إلى مزيد من التنازلات، ودفعه إلى التفاوض مع باسيل على مقايضة، بين رئاسته للحكومة وتوزير باسيل، والتخطيط لما هو أبعد. وأشار إليه الحريري في بيانه، عندما أعلن عن رفضه الخضوع لابتزاز بعض القوى السياسية التي تهدف لتحقيق مصالح شخصية وسياسية لمرحلة لاحقة. وجّه السهام بشكل مباشر إلى باسيل الذي يريد إبرام اتفاق سياسي معه حول الانتخابات الرئاسية مستقبلاً. بينما هو يرفض أن يساوي نفسه بباسيل، ويتعاطى معه وكأنّه أصبح في حكم المنتهي سياسياً.
موقف الحريري يضع لبنان بين خيارين: حكومة لحزب الله تتحمل كل المسؤولية عن الانهيار الكامل، أو بقاء حزب الله محتفظاً بباسيل إلى جانبه خارج الحكومة
لن يكون الحريري يتيماً في موقفه. المقبولية الشعبية لبيانه كانت سريعة. ويتماهى بذلك ليس مع الناس فقط، بل مع مختلف أعيان الطائفة السنية ومفتي الجمهورية، برفضهم تقديم المزيد من التنازلات على حساب الدور الوطني، ورفضهم أن تتحوّل الطائفة السنية إلى غطاء لمشاريع تتعارض مع الوطنية اللبنانية، وتسهم في المزيد من تدمير ما تبقّى من مؤسسات الدولة.
أخيراً، وهذا ما يجب أن يُبنى عليه من الآن فصاعداً. ومن أوّل ارتداداته، المزيد من الضياع في صفوف المعسكر المقابل، والمزيد من التخبّط حول شكل الحكومة، وهوية رئيسها، ووزرائها. فإما أن تكون على شاكلة حسان دياب وصحبه، فتتعمّق الأزمة أكثر، ويصبح لبنان في عزلة تامة، وإما أن يطول عمر تصريف الأعمال، إلى أن يقتنع حزب الله بتقديم التنازل المطلوب ومعه باسيل، والابتعاد عن المشهد لإفساح المجال أمام حكومة مستقلة وجدّية تكون قادرة على الإنقاذ وإعادة لبنان إلى الحضن العربي والشرعية الدولية.
موقف الحريري يضع لبنان بين خيارين: حكومة لحزب الله تتحمل كل المسؤولية عن الانهيار الكامل، أو بقاء حزب الله محتفظاً بباسيل إلى جانبه خارج الحكومة والمجيء بحكومة تحقّق إنجازات واصلاحات وتكون التسمية لك ولمن معك بشروطك المعلن عنها وغير المعلن.